حاول البعض، بقصد أو دون قصد، اختزال السياسة المصرية تجاه إفريقيا منذ ثورة 30 يونيو 2013 فى التعامل مع ملف سد النهضة الإثيوبي، والادعاء بأن ذلك الملف هو الدافع الرئيسى والوحيد لتلك السياسة. بينما المتابع للتحركات المصرية تجاه إفريقيا يمكنه أن يدرك بسهولة أن أزمة سد النهضة الإثيوبى على أهميتها لا يمكن أن تختصر السياسة المصرية تجاه إفريقيا التى بدأها الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ تسلمه مقاليد السلطة قبل ثلاث سنوات. إذ بدا واضحا أن الرئيس السيسى منذ اليوم الأول له فى السلطة يتحرك فى ذلك الملف انطلاقا من إدراك تام لأهمية الدائرة الإفريقية للسياسة المصرية على المستويين السياسى والاقتصادي. كما كان تحرك الرئيس السيسى نحو إفريقيا متكئا على الرصيد الكبير الذى راكمته مصر لدى دول القارة منذ خمسينيات القرن الماضي. فمصر لا تملك ترف الابتعاد عن إفريقيا، فالبعد الإفريقى لمصر كما قال الدكتور جمال حمدان فى كتابه «نحن وأبعادنا الأربعة» هو «بعد طبيعى خام أكثر مما هو بعد حضاري....... وبالتالى فلا مفر بل لابد من أن يكون لإفريقيا مكان مهم فى السياسة المصرية». ولم يكن غريبا فى هذا السياق أن تكون غينيا الاستوائية حيث مقر أعمال الدورة العادية الثالثة والعشرين لقمة الاتحاد الإفريقى ضمن جولته الخارجية الأولى التى بدأها بالجزائر فى يونيو 2014. وكانت تلك القمة البداية الحقيقية لعودة مصر لإفريقيا، حيث جاءت مشاركة الرئيس فى القمة بعد إنهاء قرار الاتحاد الإفريقى تجميد عضوية مصر فى الاتحاد عقب ثورة 30 يونيو 2013. وخلال سنوات حكمه الثلاث لم ينقطع تواصل الرئيس مع القادة الأفارقة، فزار العديد من الدول الإفريقية واستقبل العديد من قياداتهم فى القاهرة وحرص على الوجود فى كل المحافل التى تعنى بالقضايا الإفريقية. وبدا واضحا خلال تلك السنوات أن الملف الإفريقى يحتل مكانة متقدمة على أجندة أولويات السياسة المصرية، مصححا بذلك واحدا من أكبر الانحرافات التى عانت منها السياسة الخارجية المصرية. فلا يكاد يمر شهر أو شهران تقريبا (فى المتوسط) إلا ويزور الرئيس بلدا إفريقيا أو يستقبل رئيسا أو مسئولا إفريقيا فى القاهرة أو يحضر مؤتمرا لمناقشة قضايا القارة. وخلال العام الجارى زار الرئيس السيسى كلا من إثيوبيا وكينيا، واستقبل الرئيس الكينى ورئيس بوركينافاسو ووزير خارجية إثيوبيا وشارك فى قمة الشراكة مع إفريقيا التى عقدت فى ألمانيا وأخيرا زار أوغندا أمس لحضور قمة دول حوض النيل للنظر فى تفعيل اتفاقية عنتيبي، إضافة إلى مشاركة مصر فى القمة الفرنسية الإفريقية فى مالى فى منتصف يناير الماضى وكذلك إعلان أسوان عاصمة للثقافة الإفريقية. لقد كان الهدف إعادة إفريقيا إلى المكانة التى تستحقها من الأهمية للمصالح المصرية العليا. وقد اعتمدت السياسة المصرية على محاور أساسية للعودة إلى إفريقيا, الأول هو توطيد العلاقات الثنائية مع جميع الدول الإفريقية وفى مقدمتها دول حوض النيل. الثانى تفعيل الأطر الجامعة للدول الإفريقية من خلال تفعيل المشاركة المصرية فى اجتماعات الاتحاد الإفريقي. الثالث المشاركة الفعالة فى كل الجهود وأطر التعاون الدولى والقارى التى من شأنها تأمين جهود التنمية فى القارة الإفريقية. وبالتالي، فإن التحركات المصرية على تلك المحاور لا يمكن تصنيفها فى إطار التحركات التكتيكية لغرض التعامل مع سد النهضة الإثيوبي، بل إنها تعبير عن إستراتيجية واضحة المعالم كان هدفها إعادة مصر إلى إفريقيا وإعادة إفريقيا لمصر. وقامت تلك الإستراتيجية على صعيد المحاور الثلاثة السابقة الإشارة إليها بشكل واضح على إعلاء قيم التعاون والتفاهم والمصالح المشتركة وعدم التدخل فى شئون الغير. فأكد الرئيس فى كلمته فى القمة الإفريقية فى يوليو الماضى أنه لا بديل عن الأخذ بنموذج التكامل والاندماج الإقليمى فى إفريقيا... وأن تنمية الاقتصادات الإفريقية تحتاج إلى تنسيق الجهود على المستويين الإقليمى والقاري. وحتى فيما يتعلق بمياه النيل التى أكد الرئيس للإثيوبيين ولكل الدول الإفريقية أنها مصدر الحياة للمصريين، فإنه اعتمد سياسة الحوار والتعاون وتفهم مصالح الأطراف المختلفة خاصة مع إثيوبيا. وقد أكد الرئيس فى كلمته أمام البرلمان الإثيوبى هذه المبادئ بقوله »فكما أن لبلدكم الشقيق الحق فى التنمية وفى استغلال موارده لرفع مستوى معيشة أبنائه... فإن لإخوتكم المصريين أيضا الحق ليس فقط فى التنمية ولكن فى الحياة ذاتها وفى العيش بأمان على ضفاف نهر النيل الذى أسسوا حوله حضارة امتدت منذ آلاف السنين ودون انقطاع«. إذن راهنت السياسة المصرية على أن كل المشكلات العالقة مع بعض الدول الإفريقية يمكن التعامل معها عبر الإطارين الثنائى والجماعى انطلاقا من مبدأ التعاون وتعظيم وتفهم مصالح كل الدول، لاسيما أنها جميعا تواجه تحديات مشتركة لعل أهمها الحاجة إلى تسريع وتيرة التنمية، كما أن أيا منها ليس بمنأى عن التعرض لمخاطر الإرهاب ومحاولاته اختراق تلك الدول. المحطة الثانية أو نقطة الانطلاق الثانية كانت إعادة بث الروح فى الاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض النيل التى مر على التفكير فيها عشرون عاما دون أن تدخل حيز التنفيذ بسبب الخلافات التى نشأت بين دول المنبع ودول المصب وأدت إلى تجميد مصر عضويتها فى الاتفاقية منذ سبع سنوات. فقد عقدت بالأمس قمة رؤساء دول حوض النيل فى أوغندا، وتلك هى المرة الأولى التى يعقد فيها اجتماع على هذا المستوى فى إطار اتفاقية دول حوض النيل. الأمر الذى يعنى أنه قد تمت مناقشة النقاط الخلافية والتى أدت إلى تجميد الاتفاقية سابقا بشكل أكثر جدية ورغبة فى التوصل لاتفاق يحفظ حقوق كل الدول، وبما يعنى أن الاتفاقية باتت أقرب ما تكون للتفعيل والتنفيذ. والسؤال الآن هل ثمة علاقة بين المحطة الأولى للسياسة المصرية تجاه إفريقيا والتى تمثلت عودة مصر إلى الاتحاد الإفريقى وما تلاها من تفعيل العلاقات الثنائية وبين الوصول إلى المحطة الثانية أى العودة إلى الاتفاقية الإطارية لدول الحوض؟ هل كان ممكنا أن نصل إلى مرحلة عقد قمة لرؤساء دول حوض النيل دونما السياسة المصرية إزاء إفريقيا خلال السنوات الثلاث الماضية؟ الحقيقة التى ربما يريد البعض تجاهلها أو التشويش عليها هى أن الوصول إلى قمة أمس ما كان ممكنا لولا التغير الاستراتيجى المهم فى السياسة الخارجية المصرية تجاه الدول الإفريقية، والأهم أن يتم ذلك ليس فقط بقبول بل بترحيب من الدول الإفريقية لعودة مصر لإدارة دفة العمل الإفريقى المشترك تحقيقا لمصالح دول القارة وفى القلب منها دول حوض النيل. وبدون أدنى شك، فإن أى تقييم علمى وموضوعى للمنهج الذى اتبعته وتتبعه السياسة الخارجية المصرية إزاء إفريقيا عامة وإزاء دول حوض النيل خاصة لا يمكنه التشكيك فى أن تلك السياسة قد حققت أهدافها تماما وأنهت كل ما قيل عن حالة الفتور التى انتابت العلاقات المصرية الإفريقية وغياب الدور المصرى فى إفريقيا عبر العقود الثلاثة الماضية. باختصار، فقد نجحت إستراتيجية الرئيس السيسى فى استعادة الريادة المصرية أو الدور المصرى فى إفريقيا، وضخ مياه كثيرة فى نهر العلاقات المصرية الإفريقية الذى كاد يجف لتكتمل عملية تصحيح لمسار ما كان يمكن القبول أن يظل على نحو ما كان عليه فى السنوات الماضية. وقمة الأمس فى مدينة عنتيبى الأوغندية خير دليل على ذلك. وهنا فلابد من التفكير فى كيفية تعظيم الاستفادة من ذلك النجاح والبناء عليه، فلم يعد هناك ما يحول مثلا دون تفعيل العلاقات الاقتصادية واستغلال الفرص الاستثمارية فى دول القارة خاصة من قبل القطاع الخاص وفتح مجالات أكبر للتعاون الزراعى والسياحي، فالمستوى الحالى من التبادل التجارى بين مصر والدول الإفريقية لا يعبر بأى حال عن الفرص المتاحة فى ذلك المجال. لمزيد من مقالات بقلم علاء ثابت