تشير الإحصاءات الاقتصادية التى نشرت أخيرا الى بوادر التحسن فى الاقتصاد المصرى حيث استمر التراجع فى معدل التضخم السنوى ليصل الى 30٫9% خلال شهر مايو الحالى مقارنة بنحو 32٫9% خلال شهر ابريل وذلك على الرغم من استمرار ارتفاع معدل التضخم فى الطعام والشراب ليصل الى 41٫9% وهى نسبة مازالت مرتفعة للغاية ولكنها تشير الى بدء التباطؤ فى معدل الزيادة فى الاسعار. ومن المعروف أن التضخم او ارتفاع الاسعار هو العدو الرئيسى لاصحاب الدخول الثابتة ( سواء الأجور أوالرواتب اواصحاب المعاشات) وبالتالى فان اى بادرة تحسن فى هذا المؤشر تصب مباشرة فى مصلحة هؤلاء. وعلى الجانب الآخر تشير المؤشرات الى تراجع معدل البطالة ليصل الى 12% خلال الفترة (يناير مارس 2017) مقارنة بنحو 12٫4% و12٫6% خلال الربعين السابقين. ويرجع ذلك الى تعافى معدلات النمو حيث حقق 3٫9% خلال الربع الثالث مقارنة ب3٫8% و3٫4% خلال الربعين الثانى والأول على التوالى. وقد تزامن ذلك مع تقديم الحكومة لمجموعة من مشروعات القوانين الهادفة الى تحسن دخول الافراد عن طريق زيادة الأجور والمعاشات بنسب مختلفة، حيث تقترح زيادة المعاشات بنسبة 15% بالاضافة الى منح علاوة غلاء استثنائية بنسبة 7% للمخاطبين بقانون الخدمة المدنية، وبنسبة 10% لغير المخاطبين وذلك بحد ادنى 65 جنيها واقصى 130 جنيها. وهو توجه حميد نتمنى ان يستمر . وذلك انطلاقا من رؤية سليمة لا تنظر إلى الأجور باعتبارها مجرد عنصر من عناصر التكاليف فحسب بل تتعداه لتشمل النظر إليها باعتبارها مصدر الدخل الأساسى لقطاع عريض من المجتمع . إذ تمثل زيادة الأجور أهم الطرق التى تستطيع بها الحكومات ضمان الحد الأدنى من مستويات المعيشية اللائق لقطاعات لا بأس بها من السكان. خاصة، أن الأجور تعد المصدر الأساسى للإنفاق الاستهلاكى لقطاع عريض من المجتمع، وبالتالى فهى تسهم فى إنعاش الاقتصاد القومى وذلك فى ضوء الميل المرتفع للاستهلاك لدى هذه الشريحة. ولهذا لم يكن مستغربا أن يعيد «صندوق النقد الدولى» النظر فى مسألة وضع حد أقصى على مجموع الأجور فى الإنفاق العام لدى الدول التى تقوم بتنفيذ برامجه وذلك بعد أن ثبت أن تحديد الأجور فى هذه البرامج قد أضر ببرامج تشغيل العمالة فى أهم القطاعات الخافضة للفقر مثل الصحة والتعليم كما أضر بجودة توصيل الخدمات وأعاق التوسع فيها ومن ثم أعاق التقدم فى تحقيق أهداف التنمية للألفية الجديدة. ولذلك تراجعت نسبة البرامج التى تتضمن مثل هذه الحدود القصوى لفاتورة الأجور بصورة كبيرة خلال العقد الماضى. وعلى الرغم مما سبق فإن المشكلة تظل فى الجزء الغائب عن الصورة، فالحكومة بالإجراءات السابقة لاتخاطب المجتمع ككل ولكنها تخاطب شريحة معينة من العاملين بالدولة والجهاز الإدارى والهيئات الاقتصادية والقطاع العام، وهؤلاء جميعا يشكلون نحو 2٫15% من اجمالى المشتغلين ويتوزع الباقى على القطاع الخاص المنظم بنسبة 31٫3% والقطاع غير المنظم بنسبة 45٫8%، وبعبارة اخرى فان اى سياسة لتحسين الأجور والدخول يجب أن تشمل المجتمع ككل ولاتقتصر على فئة دون اخري. وهنا تجدر الإشارة الى ان إجمالى قيمة الأجور المدفوعة فى الاقتصاد المصرى تشكّل نحو 31% من الناتج المحلى الإجمالى وهو ما يمثّل خللاً هيكلياً فى «التوزيع الأوّلى» للدخل لصالح أصحاب الأعمال ورءوس الأموال والأصول (الأرباح والفوائد والريع) ولغير صالح العمال (الأجور) علما بأن هذه النسبة تصل إلى نحو 60% مثلا فى البلدان المتقدمة وهى المسالة التى لم تحظ بالاهتمام حتى الآن خاصة وأن العاملين بأجر يمثلون 66٫5% من اجمالى المشتغلين خلال الربع الأول (يناير مارس) عام 2017 مقابل 108% اصحاب اعمال ويستخدمون آخرين، و13% يعملون لحسابهم. وهذه المسألة من الأهمية بمكان ويجب أن تحظى بالاهتمام من جانب المهتمين مع تأكيد ضرورة أن يكون النمو متوازنا وقادرا على توليد وظائف وخدمات كافية تسمح للجميع بالعيش فى أمن وكرامة وبالتالى يجب ان تعود بالنفع على جميع شرائح المجتمع. وعلى الجانب الآخر فقد لعبت السياسات الحكومية المطبقة فى الفترة السابقة دورا أساسيا فى تغذية هذه العملية، فعلى سبيل المثال مازالت سياسات الأجور لدى القطاع الحكومى والعام أفضل بكثير من السائدة لدى القطاع الخاص وخير دليل على ذلك قيام الحكومة بتطبيق الحد الأدنى للأجور والذى وصل الى 1200 جنيه شهريا لدى القطاعات المنطوية تحت الموازنة العامة للدولة والهيئات الاقتصادية ولكنها لم تتمكن من تطبيقها على القطاع الخاص ناهيك عن عدم الالتزام بقوانين العمل وتنظيماته وتوفير التأمين للعاملين ضد الصدمات. وهنا تشير البيانات إلى أن المتوسط الشهرى للأجور النقدية لدى القطاع العام والحكومة أعلى من مثيله فى القطاع الخاص. وعلى الرغم من ان قانون العمل الحالى رقم (12) لسنة 2003 أنيط به تنظيم هذه المسألة لأنه هو القانون العام الذى يحكم علاقات العمل فى المجتمع وفقا لما جاء فى المادة الثالثة منه. حيث يطبق على جميع العاملين فى المجتمع باستثناء العاملين بأجهزة الدولة، كما افرد القانون المذكور الباب الثالث بكامله للحديث عن الأجور فأشارت المادة ( 34 ) الى المجلس القومى للأجور والذى أنيط به وفقا لهذه المادة، وضع الحد الأدنى للأجور، على المستوى القومي. وكذلك وضع الحد الأدنى للعلاوات السنوية الدورية بما لا يقل عن 7 % من الأجر الاساسي. فى هذا السياق صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 983 لسنة 2003 بإنشاء المجلس القومى للأجور . وأشار فى مادته الثالثة إلى مجموعة من المهام يأتى على رأسها وضع الحد الأدنى للأجور على المستوى القومى بمراعاة نفقات المعيشة والوسائل والتدابير التى تكفل تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار. ووضع الحد الأدنى للعلاوات السنوية الدورية بما لا يقل عن 7 % من الأجر الاساسى الذى تحسب على أساسه اشتراكات التأمينات الاجتماعية. مع تحديد هيكل الأجور لمختلف المهن والقطاعات والأنشطة بالدولة لتحقيق التوازن المطلوب فى توزيع الدخل القومي، إلا أن ذلك لم يتم حتى الآن للعديد من الأسباب ياتى على رأسها الازمة الاقتصادية التى مرت بها البلاد على مدى السنوات السابقة وغيرها من الامور. ولكن الآن وبعد ان استقرت الاوضاع فقد اصبحت الحاجة ملحة إلى ضرورة تفعيل دور المجلس فى جميع هذه الامور حتى يحظى العاملون بالقطاع الخاص بنفس المزايا التى يحظى بها العاملون فى القطاع الحكومى. لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى