سجل التاريخ عبر قرونه المتعاقبة انتصارات المسلمين فى شهر رمضان المبارك، لما منح الله تعالى هذا الزمان من الفضل والنفحات، ولما ترسخه عبادة الصوم لدى المسلم من التعلق بالله تعالي، وما تبثه هذه العبادة لدى الصائمين من التحقق بأسباب القوة وعلو الهمة والانتصار على شهوات النفس. وتُعَدُّ معركة بدر الكبرى - التى وقعت فى يوم الجمعة 17 رمضان 2هجرية الموافق 13 مارس 624م- معلمًا عريقًا ودستورًا مستقيمًا من بين معارك المسلمين التى ينبثق عنها تعاليم نبيلة تثبت أن تشريعات الإسلام وأحكامه ومقاصده فى السلم والحرب هى أرقى دائمًا مما وصلت إليه النظم الإنسانية فى معالجة قضايا العلاقات الدولية، فضلا عما تجسده هذه الواقعة شهادة خالدة بالثناء الجميل على من شهدها من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. ورغم أن المعارك عنوان الحرب والقتال لكن هذه المعركة الخالدة تؤكد كغيرها أن الأصل فى العلاقة بين المسلمين وغيرهم قائمة على التعايش والميل إلى السلام والالتزام بالقيم والأخلاق وبذل البر والمعروف دون تمييز أو تفرقة، فقد تحمل النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم ألوان العذاب وصبروا على الإيذاء قبل هذه المعركة بخمس عشرة سنة، منها ثلاث عشرة فى مكةالمكرمة. هذا ما جعل المسلمين المضطهدين يهاجرون من مكة إلى بلاد الحبشة مرتين على التوالي، ثم ختمت بالمؤامرة التى حاكها أهل مكة لتعطيل الدعوة وقتل صاحبها عليه الصلاة والسلام فكانت الهجرة إلى المدينة، ثم استمرت المناوشات والتآمر على المسلمين مدة سنتين بالمدينةالمنورة بعد الهجرة المشرفة. لقد تعامل النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأُوَل مع هؤلاء بالقيم النبيلة التى تؤْثِر الصلح على المواجهة وتجنح إلى السلام، فإنهم كانوا يحيون حياة اجتماعية قوية مع ذويهم وأهليهم وجيرانهم، فلم يتركوا معيشتهم، ولم يهجروا أقاربهم وإخوانهم، ولم يقطعوا أرحامهم، ولم يحبسوا أنفسهم بعيدًا عن الناس، كما اتسمت حياتهم الاقتصادية بالحيوية والنماء، ولم ينقل أن أحدًا منهم كان عاطلًا يتكفف الناس، بل كان بعضهم يعيش فى رغد حتى نُهِبت أموالهم. وذلك يؤكد أن هذه المعركة وما تلاها من معارك وسرايا وحروب ما كانت إلا بعد أن استنفد النبى وأصحابه كل وسائل الحكمة وسلك مختلف طرق الموعظة الحسنة فى دعوة المشركين المعتدين إلى الإيمان بالله تعالى وعرض الصلح وعقد السلام بينه وبينهم، لكنهم رفضوا وأصروا على المواجهة والحرب، فكانت بدر الكبرى فى الواقع امتثالا للإذن الإلهى فيقوله تعالي: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ .الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)[الحج: 39-40]. ويتجلى فى طيات هذه الدلائل والسمات أن الحرب والجهاد فى صحيح الإسلام لا بد أن يتم فيها مراعاة استنفاد الخيار السلمى ووسائل احتواء الأزمات بالحكمة، كما يظهر من مشورة النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضى الله عنهم حرصه الشديد على إشراك الأمة فى صنع قرارها، ومع هذا أيضًا لا بد من مراعاة واقع الأمور حربيًّا وسياسيًّا، وحساب المآلات والنتائج والمصالح والمفاسد المتعلقة بالمعاهدات ومعرفة موازين القوي. هذه المعالم البارزة التى تميزت بها معركة بدر الكبرى من إيثار السلم واستنفاد الخيارات المتاحة على الحرب، والشورى بين القائد وجنوده، والتخطيط المدروس وأعمال الرصد والاستطلاع لخطط وخطوط العدو تعطى دروسًا مجيدة فى التعايش والسلام وتعظيم المشترك، وتمثِّل عظات بالغة فى الكفاح والعزة، وهى بمجموعها كفيلة لتكون فى حاضرنا نقطة انطلاق فى مسيرة هذه الأمة نحو الاستقرار والتقدم وتحقيق التكامل بينها وبين العالم والإنسانية. وعند التأمل والاعتبار نجد خطًّا واصلا وقاسما مشتركا بين ما حدث فى بدر وبين معركة الشرف والنُّبْل فى العاشر من رمضان 1393ه. لمزيد من مقالات د. شوقى علام