كنا على مشارف عام 1992, عندما غادرنا القاهرة كمجموعة من الخبراء المصريين فى تخصصات مختلفة مبعوثين من الصندوق المصرى للتعاون الفنى مع أفريقيا فى دولة ناميبيا, عقب استقلالها عن جنوب أفريقيا 21 مارس1990. وفي مقابلة تليفزيونية باستراحة المطار الصغير الأنيق، وجّهت إلى المذيعة الناميبية عدة أسئلة بعد اختيار المجموعة لي كمتحدث بالنيابة عنهم. وأذكر من بينها سؤالا حول نظام التعليم فى مصر, وآخر عن انطباعاتنا عن دولة ناميبيا كدولة أفريقية استقلت حديثا. فى الطريق من المطار إلى الفندق وسط المدينة, فى رحلة استغرقت أربعين دقيقة, كان فى صحبتنا مندوبمن وزارة الخارجية. أخذ يفاخر بالدور الذى قامت به مصر فى مساندتها لناميبيا أثناء نضالها من أجل التحرر, حيث كانت القاهرة هى العاصمة التى فتحت ذراعيها لأول مقر لمنظمة شعب جنوب غرب أفريقيا SWAPO . .................................................................ظل الرجل يعرب طوال الرحلة عن امتنانه لعبد الناصر, وعن دوره فى تدريب أول كتيبة ناميبية خلال فترة الكفاح ضد النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا, كما تطرق فى حديثه إلى اشتراك مصر فى قوات حفظ السلام لمراقبة عملية السلام والانتخابات فى ناميبيا 1990-1989. راح المندوب بعد ذلك يبصرنا بما سوف نقابله من تحديات, وبالطريقة التى ينبغى أن نتفهم بها أوضاع ناميبيا كبلد استقل حديثا, ما زال يثقل كاهله عبء الإرث العنصرى, وما زالوا يعانون فى أماكن كثيرة خاصة فى القرى والمناطق النائية التى سيوزع غالبيتنا عليها, من التأثير المدمر الذى أوجده الرجل الأبيض, بالهيمنة لعقود طويلة على مقدرات هذه الشعوب, ليس فقط لاستغلال ثرواتها, ولكن أيضا استغلال الإنسان الأفريقى نفسه, واستلاب هويته, بشكل ممنهج, وقاس فى كل مناحى الحياة, التعليم والثقافة والدين, وأننا سنقابل ألوانا مختلفة من البشر. وأن المسئولية التى تقع على عواتقنا كبيرة, واختتم المندوب كلامه بأنهم على ثقة بأننا سنقوم بالمهمة على أكمل وجه, ولن نتوانى عن النهوض بمسئولياتنا فى كل المجالات لضخ دماء جديدة، وإحياء ما تم إهماله عمدا إبان الحكم العنصرى. فى اليوم التالى من وصولنا اتجهنا إلى سفارة مصر فى ناميبيا, وفى ابتسامة دافئة مرحبة استقبلنا السفير «حسين الصدر» الذى كان سفيرا لمصر آنذاك. وترك لدينا انطباعا طيبا كدبلوماسى شديد التهذيب وواسع الأفق. لم يمض وقت طويل على جلوسه معنا فى هذا الاجتماع, ومن خلال أسئلة خاطفة وجهها إلينا, أدرك الرجل بحدسه الدبلوماسى فقر معلوماتنا, وجهلنا الفاضح بالمكان وبهويته. كان سخيا, فلم يبخل علينا بمعلوماته, ولم يقصر فى تقديم النصح. كانت المقابلة بالفعل مفيدة وعلى درجة كبيرة من الأهمية, فلم نكن نحمل معنا عن البلد سوى كتيبات صغيرة حفظنا ما بداخلها. فى أول صفحة فى الكتيب خريطة تشير إلى أن ناميبيا تقع فى جنوب غرب أفريقيا, وهى واحدة من أكبر دول العالم فى المساحة, ومن أقلها كثافة سكانية, وأن البلاد التى تشاركها الحدود هى أنجولا وزامبيا وبوتسواناوجنوب أفريقيا. فى الصفحة المقابلة للخريطة صورة لعلم البلاد ومن تحته فك رموزه وألوانه, قرص الشمس كرمز للحياة والطاقة, اللون الذهبى هو لون صحراء «ناميب», اللون الأزرق سماء ناميبيا الصافية ومياه المحيط الأطلسى الذى تطل عليه, أما اللون الأحمر فهو يمثل كفاح الشعب الناميبى, اللون الأبيض رمز السلام والوحدة, والأخضر لون الموارد الزراعية. فى الصفحة التالية للعلم كتب عنوان النشيد القومى بالإنجليزية بحروف كبيرة «ناميبيا أرض الشجعان NAMIBIA LAND OF THE BRAVE» وتحت العنوان نطالع النوتة الموسيقية للنشيد, ثم النشيد نفسه. فى اليوم التالى للمقابلة قام السفير بدعوتنا لتناول غذاء مصرى فى الفيلا الأنيقة المخصصة له بقلب وندهوك. ونحن نتجول كمجموعة, انبهرنا بالعاصمة, توليفة جمالية لم تطف بمخيلاتنا مثيلا لها فى الرقى والأناقة, حتى أنها أصبحت مطمحاً لكل أفراد المجموعة. عاصمة ناميبيا «ويندهوك Windhoek » وهى أكبر مدنها وتقع فى وسطها. والكلمة فى أصلها من مقطعين وند-هوك وتعنى باللغة الأفريكانية «زاوية الريح»، واللغة الأفريكانية هى إحدى اللغات الرسمية فى جنوب أفريقيا, وهى خلطة «هولندية وألمانية وانجليزية وفرنسية وبعض الكلمات الأفريقية»، وكانت هى اللغة الرسمية قبل الاستقلال، لتصبح الإنجليزية بعد الاستقلال اللغة الرسمية. والمدينة من أكثر المدن الأفريقية نظافة وجمالا, المبانى بمعمار ألمانى, ومن الطبيعى أن تكون المدينة ألمانية الطراز والهوى, لأنها ظلت تحت الاحتلال الألمانى منذ عام 1884 واختارتها عاصمة لمستعمراتها, قبل أن تحتلها جنوب أفريقيا عام 1915 . المبانى بارتفاعات قليلة وبألوان دافئة, الفيلات الأنيقة بأسقفها القرميدية المائلة, على المنحدرات الجبلية مزودة بحمامات السباحة ومزدانة بالزهور البرية, والشوارع واسعة ونظيفة بأرصفة واسعة للمشى, الوجوه متعددة الألوان بمثلما قال عنها سفيرنا «حسين الصدر» بألوان قوس قزح، والواجهات الزجاجية للمحلات تبرق فيها المعروضات من الأشياء التى يسيل لها اللعاب, والماس الذى تشتهر به ناميبيا, والأحجار شبه الكريمة, والعاج, وجلود الحيوانات, ومولات, وحدائق, وفنادق, وبنوك, والمؤسسات بأنواعها. بدت المدينة مركزا للأنشطة الثقافية والاجتماعية والسياسية والتجارية وتعتبر مركزا مهما للتجارة فى جلود وأصواف الخراف. ومن المزارات السياحية التى تشتهر بها المدينة, الكنائس, وهى من التحف المعمارية ألمانية التصميم ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر, متحف القطارات, المتحف القومى, وحديقة النباتات القومية, وحدائق البرلمان. الحدائق غاية فى الأناقة والتناسق, بتنوعها النباتى الهائل, الأشجار ومهذبة بأشكال بديعة, والزهور البرية تستعرض وحشية جمالها بألوانها الزاهية, وأحجامها الكبيرة. ولم يعكر صفو هدوء الحديقة, سوى صخبنا الذى يلفت الانتباه, ويغطى على تغاريد الطيور. والسياح يتخذون من ويندهوك نقطة انطلاق إلى المناطق السياحية المهمة فى ناميبيا, والبلدان المجاورة, ومن أهم تلك المزارات, شلالات فيكتوريا فى زمبابوى, ومستنقعات أوكافنجو الساحرة فى بوتسوانا, والمحميات الطبيعية فى جنوب أفريقيا. فى بهو الفندق الذى استضافونا فيه لمدة أسبوع تقابلنا مع أحد السياح الأجانب الذى تبرع بتحذيرنا من الثعابين المنتشرة فى المناطق الشمالية والجنوبية التى قد نوزع عليها, ونصحنا بشراء أحذية برقاب طويلة قبل مغادرتنا العاصمة, هذا بالإضافة إلى حزمة أخرى من المحاذير, البعوض, والأمراض من الملاريا للإيدز. لم نشعر بها إرشادت بقدر ما شعرنا بها ترهيبنا من المكان. بقت مجموعة منا فى العاصمة. أما الباقى وكنت منهم فكان نصيبنا الغابات والقرى النائية, وسط الأحراش ومع المواطنين السود. الطريق من ويندهوك إلى مدينة رندو عاصمة المنطقة الشمالية التى وزعنا على قراها, كان طويلا, وسط مساحات شاسعة من سهول وجبال معظمها مناطق غير مأهولة بالسكان, إلا من بعض المزارع للمواطنين البيض, ويسهل التعرف عليها من خلال الأشجار السامقة المخروطية التى تهفهف قممها الوارفة من خلف الأسوار التى تحجب ما بالداخل. وناميبيا فعلا من أكثر البلدان اتساعا فى مساحة الأراضى وأقلها عددا فى السكان. ومعظم أراضيها الشاسعة جافة و«صحراء ناميب» من أقدم صحراوات العالم، وتحتل 15 فى المائة من الأراضي، ومنها اشتق اسم البلد ناميبيا, أما صحراء كالاهارى الواقعة فى شرق ناميبيا فهى تمتد إلى أراضى بتسوانا وأنجولا وزامبيا وزمبابوى». وكانت الأراضى تزداد اخضرارا ونحن نقترب من المنطقة التى تعيش فيها الحيوانات البرية. وبالتدريج بدأت تطالعنا لافتات التحذير من دهس الحيوانات أو الارتطام بها, وخاصة الخنازير البرية, وحيوانات «الكودو» وهو نوع من الظباء واسع الانتشار فى ناميبيا, ويمتاز بارتفاع جسده وطول قرونه الملتوية الذكرية التى تصل لمتر, والأنثى ليس لها قرون. وقبل مدخل مدينة رندو عاصمة الشمال توقفت العربة أمام سوق للمنحوتات الخشبية, من خشب لونه بنى فاتح يسمونه «كيات» kiaat wood. يقطعونه من الأشجار البقولية المنتشرة فى تلك المنطقة. فى مدينة «رندو» ونحن فى طريقنا إلى مقر إقامتنا قبل توزيعنا على القرى, مرت بنا العربة بنهر, ظل السائق يردد اسمه حتى حفظناه «نهر أوكافنجو Okavango river والإسم مشتق من اسم المواطنين فى تلك المنطقة الشمالية «kavango people». لنعرف فيما بعد أنه من أكثر الأنهار طولا فى منطقة جنوب أفريقيا «1600 كم», يبدأ من أنجولا متجها جنوبا ليشكل حدودا بين ناميبيا وأنجولا, ويستمر بعد ذلك حتى يصل إلى بوتسوانا, ولأن ناميبيا وبوتسوانا تعانيان الجفاف فكان لا مفر من الجدال حول طرق الاستفادة من مياه النهر بين الدول الثلاث التى تشارك مياهه وبالفعل توصلوا عام 1994إلى اتفاق بين ناميبيا وبوتسوانا يقضى بتشكيل لجنة دائمة لشئون النهر «OKACOM», تكون من مهامها تقديم المشورة للدول الثلاث, حول أفضل الطرق للاستفادة من مياه النهر بدون ضرر ولا ضرار. وهذا موضوع آخر يطول شرحه.