لم تسعهم الفرحة عندما عرفوا أننا سنقضى إجازة نهاية الأسبوع عند شاطئ الأطلسي، وفى صحراء ناميب. كانت هذه المرة الأولى لتلاميذى من شمال ناميبيا، التى تتاح لهم فيها الفرصة لزيارة مدينة «سواكمبوند Swakopmund»على الساحل الغربى لناميبيا، فقد ظلوا محرومين من رؤيتها طوال فترة الحكم العنصرى لجنوب أفريقيا. وكانت هذه فرصتهم وفرصتى للاستمتاع بعناق المحيط للصحراء. هذه المدينة الساحلية ألمانية الطراز، رابضة فى صحراء ناميب، من الموانئ المهمة، ومن أكثر المنتجعات السياحية اجتذابا للناميبيين، وللسياح الأجانب. قال لنا الأستاذ المشرف على الرحلة إننا سنذهب إلى بقعة استراتيجية نستطيع منها أن نشاهد المحيط والصحراء فى ذات المكان. وتأتى الإثارة فى المشهد أن العين اعتادت رؤية الصحراء بمعزل عن المياه، فكيف يكون الحال لو أن المياه هى المحيط الأطلسي! ربما تكون ناميب هى الصحراء الساحلية الوحيدة فى العالم. التى تفصلها عن المحيط فاصل طويل من الكثبان الرملية، تمتد كساتر رملى بارتفاع شاهق لأكثر من 300 متر. منظر يفوق الوصف. والعربة تقلنا بمحاذاة الشاطئ، وصخب أمواج المحيط الأطلسى يلاحقنا، والنوارس تحلق فى الأفق، والفقمات تلهو على الشاطئ. أى سبب هذا الذى أتى بالفقمات التى تعيش فى المياه شديدة البرودة إلى هذا الشاطئ المتاخم لصحراء ملتهبة السخونة. تكدس هائل من الشحم والفراء اللزج، أغلبها مستلق بتكاسل فوق مرتفعات صخرية تضربها الأمواج وترطبها برذاذها، رافعة زعانفها لأعلي، وبعضها ينزلق إلى المياه، لتلطف أجسادها من تأثير الحرارة. المدهش أن الرياح الباردة التى جرفت الفقمات من موطنها الأصلى مع التيارات المائية، هى ذاتها الرياح التى شكلت الكثبان الرملية، والتى لا تهدأ حركتها لحظة، فلا تزال تعيد تشكيل الكثبان فى نشاط دائم. توقفت العربة بنا فجأة، وترجل السائق، وجرى مسرعا إلى الشاطئ، ورجع تتدلى من يده فقمة صغيرة نافقة. وأخبرنى زميل يجلس بجوارى أنهم يقتلون صغار الفقمات لاستغلال فرائها. وطالعت لاحقاً خبرا عن احتجاج عالمى ضد مجازر الفقمات الصغيرة على سواحل ناميبيا. ومن يفعلون ذلك يبررونه بأنهم مضطرون للتخلص منها للحفاظ على الثروة السمكية التى تستهلكها الفقمات بكميات هائلة. وهى الثروة نفسها التى تعتبر مثل الماس مصدرا مهما لدخل البلاد القومي. النظرة الأولى لصحراء ناميب توحى بالوحشة وانعدام الحياة، وهذا انطباع غير صحيح، فهناك العديد من الحيوانات تعيش فوق وتحت الرمال. رغم ندرة المياه، وقسوة الطقس، فهو شديد الحرارة فى النهار، حيث تصل درجة الحرارة 65 مئوية، وشديد البرودة فى الليل. ومع ذلك نجد العديد من الحيوانات التى استطاعت التكيف مع حياة الصحراء. ومن أفضل الأوقات التى يتصيدون فيها نصيبهم من المياه، تلك التى يتكاثف فيها بخار الماء مُكوناً الضباب، خاصة خلال الساعات الأولى من الصباح، فمع أول ضوء، وقبل أن تشتد حرارة الشمس. ويحدث هذا التكاثف نتيجة التصادم المستمر بين هواء الرمال الساخنة وهواء المحيط البارد، ويزحف الضباب من الأطلسى برياح رطبة متوغلاً فى الصحراء إلى الداخل حتى مائة كيلومتر. وهو المصدر الوحيد للمياه لهذه الكائنات التى تتصيده بحيل عديدة، حيث يبحثون عن الشجيرات القليلة المتناثرة، وعن الأعشاب ليستظلوا بها، ولتصيد قطرات المياه التى تتكاثف على أسطحها، ومن أطرف هذه الحيل هو ما تفعله خنفساء صحراء ناميب التى يسمونها «خنافس الضباب fog beetles» فهى تتخير أعلى القمم الكثبانية، وتثنى ظهرها برفع أرجلها الرفيعة الخلفية، فتتكاثف المياه على ظهرها وتنزلق إلى فمها قطرات.. قطرات، ومع ظهور الشمس ينقشع الضباب، وتبدأ الرمال بالسخونة تدريجيا. كما تبدأ الحيوانات فى استعراض قدراتها الفذة على التكيف مع اللهيب، فمنها من يفتح فمه ليرطب جسده، ومن يبدل رفع الأرجل حتى لا تلسعه السخونة، ومن لا يتوقف كثيرا، ومن يدفس نفسه فى الرمال حتى يصل إلى الأماكن الأقل حرارة، مثل الثعابين بحركاتها السريعة، والحرباء والخنافس والسحالي، وكلها بارعة فى التخفي، وصيد الفرائس، واقتناص الفرص. وهناك جزء كبير من الصحراء نحو الداخل تستوطنه الحيوانات البرية، حيث تستوى الأرض فى مناطق وترتفع فى مناطق أخري، وتنمو الأعشاب والشجيرات بالقرب من مصادر المياه نتيحة سقوط الأمطار الموسمية، وهى المناطق التى استغلت كمحميات طبيعية وحدائق قومية. ومن أشهرها فى أفريقيا وفى العالم حديقة «نوكلوفت Namib Naukluft national park» وتضم مجموعات من الحيوانات البرية الصحراوية، مثل الأفيال، والظباء، والنعامن والحمر الوحشية، والخنازير البرية، ونوع من الطيور الصحراوية التى يعمل ريشها كاسفنجيات تمتص المياه لتحملها لأطفالها فى أعشاشها، وغيرها من الحيوانات التى تكيفت بشكل مذهل على الحياة الجبلية والصحراوية من القردة، إلى الأسود. صحراء ناميب من أكثر صحارى العالم جفافا، ويرجع سبب الجفاف إلى عدم وصول الرياح الباردة المشبعة بالرطوبة، القادمة من المحيط الهندي، حيث تصدها وتعترض مسارها جبال «دراكنبرج rakenberg» الشاهقة والشهيرة فى جنوب أفريقيا، فتتكاثف فى هذه المنطقة وتصبح غيوما ممطرة، فلا تصل إلى صحراء ناميب إلا بعد أن تكون قد تخلصت من حمولتها من المياه. ولم يكن جفاف صحراء ناميب النتيجة الوحيدة لظاهرة صد الرياح بواسطة جبال «دراكنبرج»، فهناك أيضا استمرار تراكم الرمال التى تغولت وصارت كثبانا شاهقة. ومن هذه الأمطار وعبر ملايين السنين تكونت الأنهار فى الجبل وجرفت معها الصخور التى ظلت تتفتت إلى أن أصبحت حصوات ورمالا، تحملها المياه الجارية وتلقى بها إلى داخل المحيط الذى يقذفها بدوره إلى الأرض المتاخمة التى أصبحت إلى صحراء ناميب. و«ناميب» بلغة «الناما» تعنى «المكان الواسع»، وهى أقدم الصحارى فى التاريخ، ويرجح أن يكون عمرها أكثر من 80 مليون سنة، وتمتد لمسافة 2000 كيلو متر بمحاذاة ساحل الأطلسى مرورا بأنجولا، وناميبيا، وجنوب أفريقيا، وتغطى مساحة تصل إلى 81000 كيلو متر مربع، وهى ثانى أكبر صحارى أفريقيا بعد الصحراء الكبري، فلا عجب أن تحتل الجزء الغربى كله من ناميبيا، وتكوِّن المنحدرات الشديدة المعروفة بالمنحدرات الناميبية، سهولا ووديانا وأنهارا، بالإضافة إلى الشريط الساحلى المضبب فى صحراء ناميب. وهناك مناطق بطول الساحل الصحراوى يوجد فيها الماس، حُفر فيها العديد من المناجم، ولا يزال يستخرج من شواطئها إلى الآن، لكن بتقنيات حديثة، أما مستوطنات مناجم الماس القديمة مثل «كولمان سكوب» و«إليزابيث باي» فقد أصبحت اليوم أطلالا تغطيها الرمال، وطمرت تحتها حكايات كثيرة يتناقلها السكان المحليون، والمكان يعرف بمدينة «كولمانسكت» كانت موطنا لمئات من عمال مناجم الماس الألمان الذين كانوا ينقبون عنه بعد أن تم اكتشافه فى صحراء ناميب عام 1900. وصارت المدينة الآن مكانا للأشباح. وهناك حكايات أكثر غرابة يتناقلونها عن مكان آخر يقع فى الجزء الذى يكون المنطقة الشمالية الساحلية المتاخمة للصحراء يسمونه «Skeleton coast» «ساحل الهيكل»، وجاءت تسميتها هكذا من الهياكل العظمية للحيتان والفقمات التى لا تزال متناثرة فى المكان. وكان يلقى بها المستعمر فى الماضى بعد استخلاص وتصنيع الأجزاء المفيدة منها. وكان السكان المحليون من قبيلة «البوشمان» يسمونه «المكان الذى نزل عليه غضب الإله»، لأنه المكان الذى «وطأته أرجل غريبة»، ويحكون عن بحارة تاهوا وماتوا فى الصحراء، بعد أن تحطمت بهم السفن التى غامروا وركبوا بها المحيط الأطلسي. أما البحارة البرتغاليون فكانوا يطلقون على هذه المنطقة «بوابة الجحيم»، ولايزال يوجد بها عدد هائل من حطام تلك السفن، التى يُعزى السبب الحقيقى وراء تحطمها إلى الصخور وحزام الضباب الكثيف، إضافة إلى أهوال الرحلة. أما الكثبان الرملية فهى المعلم الرئيسى المميز لصحراء ناميب ليس فقط فى تعدد ألوانها, الرمادي, البرتقالي, الأحمر والأصفر, ولكن أيضا فى الأشكال البديعة التى تتخذها, وفى ارتفاعاتها الخيالية التى لا يوجد مثيلاتها فى العالم, حيث يصل ارتفاع بعضها إلى أكثر من 400 متر, وهى من المزارات السياحية التى ينعم فيها السياح بالفرجة على هذه الكثبان الفريدة بالتحليق فوقها بالمناطيد, أو بالتزلج على رمالها شديدة النعومة. كانت الشمس فى بداية ظهورها , فكان ممتعا تسلق مجموعة من الكثبان شديدة الحمرة , وهو اللون الذى استدلينا به على توغلها فى القدم.وكانت فرصة للتعرف على بعض الكائنات الحية التى كانت تظهر من حين لآخر فوق الرمال .