لم يكن الميل المفاجىء لأحد أبراج حى الأزاريطة بالاسكندرية إلا ورقة من سجلات الفساد المنتشر فى كل أنحاء مصر، الذى بدأ منذ سنوات كثيرة، وأصبحت المخالفات هى القاعدة، والعكس هو الاستثناء! فقد تكونت صورة ذهنية غريبة مفادها أن الاستثمار الأمثل يكمن فى شراء العقارات، حتى باتت هناك وفرة فى عدد الوحدات المعروضة، الغالبية العظمى منها مغلقة، لذا نشاهد العديد من الشركات العقارية تطرح وحداتها بالتقسيط على سنوات قد تصل للعشر، وهو أمر غير مسبوق، بعد أن تقلصت القدرة الشرائية للقادرين الذين يمتلك غالبيتهم أكثر من وحدة سكنية، فى المقابل نجد الشرائح الأقل مقدرة مالية تلجأ إلى الشراء من تجار العقارات محترفى البناء والتحايل على القانون، فأمسى من الطبيعى مشاهدة هذا الكم من القبح العشوائى، ورويدا رويدا تحولت القاهرة أحد أجمل مدن العالم معمارياً فى بدايات القرن الماضى إلى واحدة من أسوأ العواصم فى سوء التخطيط العمرانى، وتسللت العشوائيات لتحوطها من كل صوب بل لا أبالغ حينما أقول إنها تجثمت على قلبها. ففى كل أحيائها تسابق المخالفون بثقة وأريحية عجيبة، ليبرزوا مخالفاتهم دون خجل، وعلى التوازى تبعتها بقية المحافظات، إلا الاسكندرية التى تملك النصيب المرتفع نظرا لتزاحم المصطافين عليها بأعداد هائلة مما فتح شهية الفاسدين لبناء هذه الأبراج بارتفاعات تخالف كل الأعراف الهندسية طمعاً فى تحقيق أرباح مبهرة. وبإلقاء الضوء على برج الأزاريطة المائل، نكتشف أن العقار صاحب الثلاثة عشر طابقاً، محدد له البناء بثلاثة فقط، نظراً لعرض الشارع الذى يحدد الارتفاع، كما صدر له قرار إزالة منذ 2004 !وكان يقطن به أكثر من 450 نسمة، بفضل من الله لم نروع فى واحدة منهم، ولكن الغريب عدم الحديث عن العقارات المجاورة بما فيها التى سندتها والتى تفوق ارتفاعاتها الثلاثة طوابق بكثير!وأعتقد أنه قد صدر لها قرارات إزالة بالمثل، ويكفى أن نعرف أن عدد الحالات المشابهة فى الاسكندرية فقط تتجاوز ال 60 الف عقار يتحتم إزالة مخالفاتها قبل أن نصبح على كارثة والعياذ بالله، فما العمل؟ وأذكر بأن عدد مخالفات البناء فى كل أرجاء المعمورة يتجاوز ال 2 مليون مخالفة حددها الخبراء منذ 2014 عندما بدأ الحديث عن إصدار قانون للتصالح فى مخالفات البناء ولا يوجد حصر دقيق لعدد التجاوزات التى حدثت منذ هذا الوقت للآن، بعد أن أغرى الحديث حول هذا القانون الكثيرون للإسراع بعمل المخالفات طمعا بالفوز فى التصالح وتقنين أوضاعهم. أرى أن تكون البداية فى صدور قرار بوقف البناء تماماً لمدة لا تقل عن شهر، فى خلاله يشرع مجلس الشعب فى سن قانون التصالح فى مخالفات البناء، بعد أن يحدد معامله الرئيسية خبراء وأساتذة الهندسة فى كل الجامعات، واضعين صوب أعينهم الاشتراطات اللازمة والواجبة لسلامة العقار، ومن ثم سلامة القاطنين بشكل تام. ويلى ذلك وضع تصورهم الفنى فى يد أساتذة القانون ليضعوا بدورهم النقاط على الحروف بوضوح محددين بشفافية مطلقة الحقوق والواجبات لكل الأطراف مشترين أو قاطنين، مسئولين أو مقاولين، وكذلك الشركات العقارية التى توحشت بشكل لافت. فإذا كان التصالح آمناً، يعلنون كيف يكون وما هى المعايير المحددة، وإذا كانت الإزالة واجبة، يوضحون من يتحمل تكلفتها، وإلى أين يذهب قاطنوها، أو كيف يتم تعويض مشتريها لو كانت مازالت شاغرة؟ وكيف تتم محاسبة المتسببين فيها؟ والمتخاذلين عن مواجهتها؟ وكفانا هدراً لطاقات الدولة من مياه وكهرباء وخلافه والتى تذهب للمخالفين بلا رقيب ولا حسيب. أما الحديث عن مراجعة كل تراخيص البناء فى السنوات السابقة، لمعرفة المخالف منها، هو أمر قد يستغرق شهوراً، حتى ولو ركزنا كل جهود الأجهزة الرقابية فى هذا الشأن، لأننا فى الغالب سنكتشف ما فوجئنا به فى واقعة برج الأزاريطة، أن معظم المخالفات صدر لها قرار إزالة، ولم يتم تنفيذها، وفى هذه الأثناء، نكون قد أهدرنا وقتاً طويلاً بلا طائل، لأننا بعد هذا الاكتشاف سنبدأ فى البحث عن حلول! حادث برج الأزاريطة المائل هو حادث كاشف ومذكر بكل المعايير لحجم الفساد المستشرى فى بلدنا، ففى بداية العقد السابق كنا نردد مقولة إن الفساد «وصل للركب»، اليوم و بلا أدنى خجل وصل لقمة الرأس، وبتنا متعايشين معه، كما بات الفاسد مزهواً فخوراً بفساده ولم لا وهو لم يجد من يقتص منه! ورغم كل الانجازات التى نفذتها الدولة فى مجالات كثيرة مثل الطرق والكهرباء والإسكان والزراعة والانتاج الحيوانى .. إلخ، يجىء الفساد بكل موبقاته لينغص علينا حياتنا بين الحين والآخر، محتمياً بقوى أصحاب المصالح والمستفيدين. لذلك يتوجب علينا التحرك بكل قوتنا صوب القضاء عليهم ووضع حد لتغولهم، بل وبترهم، قبل أن يأتى يوم ونصبح على كارثة يكون ضحيتها أبرياء تركناهم بملء إرادتنا لقمة سائغة فى أيدى هؤلاء الفاسدين، ثم نلوم أنفسنا ونبدأ فى الندم على خسارة لا يمكن تعويضها. [email protected] لمزيد من مقالات عماد رحيم