كان الالحاح علي ضرورة قيام مجلس أمن قومي لمصر, بالمعايير العلمية المجردة, مدفوعا بقدرة الدولة علي التعامل مع العالم الخارجي. بعد ثورة 25 يناير, خاصة ماكان عليه حال مصر, في عهد النظام السابق, الذي كان يحكم منفردا, بلا استراتيجية أمن قومي, أو حتي مستشار أمن قومي يعاون الرئيس, والنتيجة تدني الأوضاع في الداخل, وتراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية, وتراجع دور مصر الاقليمي, في محيطها العربي, وفي عمقها الاستراتيجي في إفريقيا. وبعد أن عرضت في الاسبوع الماضي, لأقدم نماذج هذه المجالس في أمريكا, فإنني أتطرق إلي التجربة البريطانية, وكيف تطور الآن فكرها الاستراتيجي, وعمل مجلس أمنها القومي. بريطانيا بدأت مؤخرا وبعد شهور من الانتخابات العامة, في وضع استراتيجية جديدة عنوانها: بريطانيا في عصر من عدم اليقين: استراتيجية للأمن القومي, حددت فيها المخاطر قبل وقوعها, وتجهيز آليات التعامل معها, مع الوضع في الاعتبار, أن أي استراتيجية, لاتتعامل مع الوضع القائم فقط, لكنها تراعي تغير الزمن وظروفه المستجدة. الاستراتيجية البريطانية الجديدة, صدرت في وثيقة من 73 ورقة, مقسمة إلي أربعة أجزاء, وتطرح المبادئ التالية:
(1) توقع اتساع دائرة القوس الدولية التي بيدها صناعة القرار السياسي في العالم, مع ظهور قوي دولية جديدة, واحتمال حصول البعض منها علي عضوية دائمة بمجلس الأمن, من بينها الهند والبرازيل. وتدرك بريطانيا أن هذا التوسع يمكن أن يقلل من نفوذها, كواحدة من الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن, إلا أنها تفهم أن هذا تطور لا مفر منه. وانه يحدث في إطار تحول مركز التأثير الاقتصادي العالمي, من الغرب, إلي آسيا وأمريكا اللاتينية, وصعود الصين والهند كقوي عالمية مؤثرة. (2) تحدد الاستراتيجية الجديدة, هدفين واضحين لها هما: (أ) ضمان أمن بريطانيا, وقدراتها علي حماية شعبها, واقتصادها, وأراضيها. (ب) صياغة عالم مستقر, بالعمل مع غيرها. تخفض المخاطر المحتملة التي تؤثر عليها, وعلي مصالحها فيما وراء البحار. (3) تقول الوثيقة: إن استراتيجية الأمن القومي ليست وصفة طبية, أو روشتة, تملي علينا أسلوب ردنا علي أي حدث, وإن كانت الوثيقة تلاحظ أن طريقة الروشتة, استخدمت في حالة تعامل الحكومة البريطانية مع ثورات الربيع العربي. وان استراتيجية الأمن القومي الجديدة, يمكن أن تكون فعالة, إذا تضمنت خيارات, يتم الاختيار من بينها, وان تقوم علي التفكير للمدي البعيد. (4) تطرح الوثيقة مجموعة من التهديدات القائمة بما فيها التجسس, والارهاب, والانتشار النووي, والتهديدات العارضة كالأوبئة, وكيفية التفكير فيما قد يأتي به المستقبل, ودور بريطانيا فيه. (5) ان ترتيب أولويات الأمن القومي, لابد أن تضع في حسابها, أننا دخلنا عصر ندرة الموارد وهو وضع يعاني منه المجتمع الدولي كله. وضمن الأفكار الخاصة بالتعامل مع هذه الندرة, إقامة مشاركة أوسع مع دول مختلفة في العالم, في آسيا, وأمريكا اللاتينية, بمعني عدم الاكتفاء بالتحرك في إطار الاتحاد الأوروبي, بل الانطلاق في اتجاهات أخري مكملة. (6) يعتبر مجلس الامن القومي, هو محور عمل السياسة الخارجية, وله دوره الحيوي في طريقة التعامل مع الأوضاع المتغيرة في العالم. ويباشر المجلس عمله من خلال تكوينه من نخبة من العقول ذات الخيال والمعرفة والخبرة, تعاونهم لجان من المتخصصين الذين يعهد إليهم, بعمل الدراسات والتحليلات, في الموضوعات ذات الأولوية. علي أن توضع أمام المجلس ولجانه المتخصصة, جميع التفاصيل والمعلومات عن القضايا التي تخص الأمن القومي. (7) تتحدث إحدي نقاط الوثيقة عن تعزيز نفوذ بريطانيا في الخارج, لكن النفوذ هو سند الأمن القومي, وحماية المصالح في الداخل, وأن لدي بريطانيا أرصدة تستثمرها في هذا الاتجاه مثل القدرة العسكرية والدبلوماسية, والمساعدات, ومراكز الابداع الثقافي الأدبي والفني. (8) تؤكد الوثيقة أهمية القوة الناعمة, كواحدة من مكونات النفوذ, وأن من بين صور القوة الناعمة الميراث الثقافي البريطاني التقليدي, بالاضافة إلي الصور الحديثة للانتاج الثقافي المتنوع, والاستفادة من دور الاعداد الكبيرة من البريطانيين الذين يعيشون ويعملون فيما وراء البحار, وقطاعات أجنبية منها عشرات الألوف من الصينيين يدرسون في بريطانيا. والاستفادة من وضع بريطانيا المتميز, بعضويتها في شبكة واسعة النطاق من الكيانات, مثل مجلس الأمن, وحلف الأطلنطي, والكومنولث, والاتحاد الأوروبي وغيرها. بالاضافة إلي تنويع تحركاتها في مجالات أخري عديدة, بمشاركة أمنية ثنائية مع دول مثل تركيا, والهند, واليابان, وغيرها, وتنظيمها حوارات سياسية, وأمنية مع الصين وروسيا, وعلاقات تتسع اقتصاديا مع البرازيل.
هذه نماذج لها تاريخ وتجارب متنوعة, لكنها تغير وتطور من فكرها وآليات عملها, لأنها فهمت أن العالم يتغير, ولابد لها من اللحاق به والتوافق معه. ولما كانت استراتيجيتها العابرة للحدود, تغريها علي اقتحام المجالات الحيوية للآخرين, كلما صادفت فراغا استراتيجيا, وهو ما كان عليه الحال عندنا, ومن ثم كان لابد لمصر الاسراع بسد الفراغ الذي كان قد نشأ بسبب عدم وجود هذه الاستراتيجية, وعدم أخذنا بنظام مجالس الأمن القومي, والتي يراعي في تكوينها معايير الخبرة, والمعرفة والتخصص.. وبمراعاة أن تلك مسألة تخص الأمن القومي للدولة, للمدي الطويل. المزيد من مقالات عاطف الغمري