تابعت باهتمام مقال الصديق الدكتور جابر عصفور, في الأهرام يوم25 يناير2010, عن الوضع الثقافي العام, وكان يرد به علي مقال للزميل فاروق جويدة, يحلل فيه ظاهرة التراجع الثقافي. وأجدني أتفق تماما مع الدكتور جابر عصفور, ليس من باب التحيز, لكوننا جئنا من نفس المدينة المحلة الكبري وإنما لأسباب موضوعية, تأتي من حصيلة فترة عمل لسنوات في بريطانيا والولاياتالمتحدة, أتيحت لي خلالها فرص حضور ورش عمل ومؤتمرات, شارك فيها كبار المفكرين, والساسة, ألتقت آراءهم علي الأولوية المتزايدة للمشروع الثقافي القومي, كجزء من السياسة الخارجية, ومن استراتيجية الدولة في القرن الحادي والعشرين, وأن تلك مهمة لا تتحملها في ظروف العصر وزارة الخارجية, أو الجهات الثقافية, وحدها, لكنها مسئولية تتوزع أعباؤها علي جميع المؤسسات. وبشكل إجمالي فان الدكتور عصفور اعتبر أن جذور المشروع الثقافي القومي, تكمن في سياسات الدولة. فالمشروع الثقافي هو نتاج عملية التثقيف المجتمعي العام للأمة, وهو مشروع يطير بجناحين أولاهما وزارات الدولة وتبدأ بالتعليم, ويليه الإعلام, وثالثهما وزارة الثقافة, ثم بقية وزارات الدولة, وأجهزتها. أما ما يخص المجتمع المدني فمن أهم مظاهره, وجود أحزاب قوية متكافئة, وأن يكون للثقافة دور أساسي في برامجها, وليس أحزاب هزيلة لا تعي دور الثقافة. والأهم وجود استراتيجية عامة للدولة, تسندها إرادة سياسية حازمة تفرض التجانس. .. من هنا التقط خيط الحديث, مستشهدا بعدد من الوقائع التي كنت أحد شهودها وهي علي النحو التالي: (1) في مارس1995 حضرت في لندن ورشة عمل نظمها المعهد الملكي للشئون الدولية شاتهام هاوس, في إطار مؤتمر شاركت فيه الحكومة البريطانية, وحضرة أكثر من40 من المفكرين والساسة من العالم كان منهم من أمريكا هنري كيسنجر ومن المسئولين البريطانيين, الأمير تشارلز, ودوجلاس هيرد وزير الخارجية, وروبين كوك وزير خارجية حكومة الظل المعارضة. إلتقت الغالبية العظمي من الأفكار التي طرحت علي أن العالم ينتقل من عصر القوة, إلي عصر النفوذ والمكانة. وهذا جانب يصنعه الإنعاش الثقافي للدولة, والتي سيكون تعريفها في القرن الحادي والعشرين, بمقدار صعودها ثقافيا, بصورة تزيد عما كانت قيمتها ونفوذها يعرفان بقوتها العسكرية. واتفق الجميع علي أن القدرة الثقافية لها روافد عديدة, لكن التعليم أولها وأهمها. (2) في عام1997, حضرت في هيوستن بولاية تكساس, مؤتمرا دعا إليه مركز جيمس بيكر للسياسات العامة, وهو وزير الخارجية في رئاسة جورج بوش الأب, شارك فيه جميع وزراء الخارجية الأمريكيون السابقون ومستشارون للأمن القومي, وحشد ضخم من المفكرين والأكاديميين, لمناقشة التحديات التي تواجه أمريكا في القرن الحادي والعشرين, وشكل الاستراتيجية, والسياسة الخارجية التي يجب أن تتبع. وساد اتفاق عام علي أن دور الثقافة يبرز موازيا لدور السياسة الخارجية, ومكملا لها, وأن الأفكار والممارسات السياسية التقليدية فشلت في تفسير التحولات الجديدة التي بدأت تظهر في العالم وأن القدرات الثقافية في مختلف مجالاتها كأبرز صور القوة الناعمةSoftPower ستصبح من الأدوات الأساسية لقوة الدولة في القرن الحادي والعشرين, وأن استنهاض المشروع الثقافي, هو مهمة استراتيجية للدولة, وليست دورا موكولا فقط, إلي جهة أو مؤسسة بذاتها. (3) شهدت مناقشات السياسة الخارجية في الولاياتالمتحدة في السنوات القليلة الماضية, التساؤل عما إذا كانت المؤسسات الثقافية في مصر, خاصة, المسرح, والسينما, والتليفزيون, والصحافة بالطبع, مازالت قادرة في الداخل علي جذب الجماهير بشكل مجتمعي, وهل مازالت قادرة علي أن تشع تأثيرها علي مستوي العالم العربي مثلما كان الحال في الماضي. (4) لاحظت الدراسات التي تتبعت صعود دول آسيوية, عبر عمليات تنمية اقتصادية مبهرة, أن هذا الصعود, دفع إلي مجراه في السنوات الأخيرة, نشاطا عاما لمختلف قطاعات الدولة, لتأكيد الهوية الثقافية الوطنية. واستوعبت هذا النشاط استراتيجية, للتنسيق المجتمعي, وراء هدف جعل هذه الهوية مصدرا للإسهام الوطني, وتأكيد غريزة الانتماء, والتوقف عن بقاء آسيا مجرد سوق لاستهلاك الانتاج الثقافي الخارجي. (5) خلال النصف الأول من التسعينات عقد في بريطانيا ما لايقل عن عشر مؤتمرات, لصياغة سياسة تعليمية, تكون البداية لتعظيم مكانة الدولة في عصر متغير. وفي عام2008 أنشيء في بريطانيا مجلس, تتباري فيه الأفكار من مؤسسات الدولة, ومن المجتمع المدني وفئاته العاملة في كل مجال من الاقتصاد إلي الفنون والآداب, الصياغة استراتيجية لتعزيز مكانة الثقافة القومية, بما يدعم دورها في العالم. ولا يفوتني العودة إلي ما قاله الأمير تشارلز في مؤتمر شاتهام هاوس: إننا إذا لم نبدأ في مشروع وطني, نستثمر فيه مصادر قوتنا وهي كثيرة بطريقة أكثر ايجابية, فسوف ينتهي بنا الأمر إلي تبديد ما لدينا من امكانات, مع ما يترتب علي ذلك من عواقب خطيرة, علي نفوذنا في العالم, وعلي احترامنا لأنفسنا. .. القضية في النهاية, تصل خيوطها إلي ملتقي, تتجمع فيه ضرورتان حيويتان أولاهما: وجود استراتيجية عامة للدولة, يكون فيها كل قطاع في الدولة مكلفا أداء دوره فيها في تناسق وتجانس. والثانية إطلاق الخيال الابداعي الحر والخلاق, في إطار حركة نشطة لجميع قوي المجتمع والطريق الوحيد إلي ذلك هو الديمقراطية.. وهذان هما جناحا المشروع القومي.