قد تبدو القضايا التي تمثل أولوية للرئيس القادم, المطروحة في برامج كثير من المرشحين متعددة ومتنوعة, لكنها في حالتنا المصرية ترتبط في النهاية بقضية أولي ومحورية, وهي الأمن القومي لمصر. فالنظام السابق قبل 25 يناير كان قد عمل, علي نزع جذور مبدأ الأمن القومي, من تربة السياسة, وذلك حين تصرف كغيره من أنظمة الحكم الفردي الدكتاتوري باستبدال الأمن القومي للدولة, بمفهوم أمن النظام, ولكل منهما فلسفته, وأهدافه, وأسلوب عمله. فأمن النظام يعمل علي حشد جميع قوي الدولة ومواردها, وتوجيه عمل مؤسساتها, نحو تحقيق أهداف الفرد الرئيس, مستندا إلي جهاز أمن الدولة, وهو ذراعه الباطشة في ردع أي صوت يعلو بمطالب وأهداف مخالفة لهذا النظام. وأخطر ما في هذا النظام, أنه يمد آليات عمله, إلي جميع شرايين المجتمع, في تهميش, أو إقصاء للعناصر الصادقة, في انتمائها للوطن, قبل الولاء للفرد الرئيس, وتعويق ما تنتجه هذه العناصر, من أفكار ومشروعات للإصلاح, والتنمية, والإنتاج, وتوفير العدالة الاجتماعية, ومناهضة الإبداع, مادام لا يعزف نغمات تمجيد النظام, أو علي الأقل, تبرير أخطائه وخطاياه. وينتهي الأمر, بضعف داخل هياكل الدولة, وهو ما ينعكس علي دورها الإقليمي والدولي, في تراجع مهين لنفوذها ومكانتها, مما يغري أي قوي إقليمية, لاقتحام مجالها الحيوي, ولعب أدوار لم تكن لها. وتتضاعف أولوية قضية الأمن القومي, بالنظر إلي أن المفهوم التقليدي والمتعارف عليه للأمن القومي للدول, قد طرأت عليه تغييرات كبري في السنوات العشرين الأخيرة, ودخلت هذه التغييرات, ضمن سياسات الدول الأخري, التي نتعامل معها, سواء في استراتيجيات سياساتها الخارجية, أو في سياساتها في الداخل, في مختلف المجالات: التنمية, والتعليم, والبحث العلمي, والصحة, والتدريب, ورفع مهارات البشر, وغيرها. ولم تعد قوة الدولة تقاس بقدراتها العسكرية وحدها, بل صعدت إلي نفس مستوي القدرات العسكرية, مقومات أخري مثل القدرة الاقتصادية, والعدالة الاجتماعية, وتطور نظم التعليم, والبحث العلمي, فمتانة كيان الدولة في الداخل هو الأساس, الذي يبني عليه كل شيء بعد ذلك. وبناء علي التجارب التي مرت بها دول في آسيا وأمريكا اللاتينية, منذ سقوط عصور الأنظمة الشمولية عام 1991, التي قفزت بها إلي مستويات عالية من الازدهار الاقتصادي, والمكانة الإقليمية, والنفوذ الدولي, فقد استقر في الفكر السياسي العالمي في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين, صعود مفهوم القدرة الاقتصادية التنافسية, إلي قمة مكونات الأمن القومي للدولة, وأدرجت ضمن عناصر دعمها, مراعاة العدالة الاجتماعية في خطط التنمية, والممارسة الديمقراطية الحقيقية, بل إن الدول الصاعدة, أدركت من البداية, جدوي اعتبار القوة الناعمة, بمكوناتها الثقافية, أدبا, وفنا, وفكرا, عاملا رئيسيا في عصر يحكمه التنافس بين الدول في كل مجال. أي أن معني الأمن القومي, لم يعد شيئا يتأسس علي قدرة ما بمفردها, بل تداخلت فيه مكونات عديدة. ولما كانت مصر, قد كبلت في ظل نظام مبارك, بقيود استبدادية, أمسكت بتلابيب أمنها القومي, لحساب تمدد أمن النظام, لذلك فإن إدارة المرحلة الانتقالية من بعد 11 فبراير 2011, قد وقعت في خطأ, عدم الخروج من شباك هذا النظام, بافتقادها استراتيجية متكاملة, تعيد بناء الدولة علي أسس من السلامة والعافية المجتمعية, وتوزعت سياسات هذه المرحلة, في فروع من قرارات تدار يوما بيوم, في التعامل مع المشكلات, التي تواجهها, دون أن تملك مفاتيح الانتقال السلس إلي أرضية, تنطلق منها إلي الوضع الأسلم, لافتقادها الفكر الاستراتيجي وآليات عمله. وهو ما يعني أن الرئيس القادم سوف تلقي علي عاتقه, مسئولية إدارة المرحلة الانتقالية الثانية, بعد أن صارت المرحلة الأولي, وقتا ضائعا. إن كثيرا من دول العالم, خاصة الولاياتالمتحدة وإسرائيل, قد أسست استراتيجية سياستها الخارجية, في التعامل مع مصر والعالم العربي, علي أساس الاستمرارية والثبات في الحكم الاستبدادي, ومن ثم أقامت استراتيجيات أمنها القومي علي نظرية عدم الحاجة لتغيير سياساتها, لكن ما جري في مصر قد أحدث ارتباكا في التفكير السياسي في هذه الدول, بعد أن تحول الثابت إلي متغير, وضمن سياساتها القديمة, حصار مصر في دائرة ضيقة, تحول دون استعادة دورها التاريخي في المنطقة, وهو حصار كان له تأثيره في تهافت وجودها في مناطق عمقها الاستراتيجي, وعلي سبيل المثال في إفريقيا, وهو ما أفرز تعقيدات مسألة مياه النيل, وهو مجال يتطلب إدراجه ضمن استراتيجية أمن قومي, تتحرك بخطي متكاملة, تشارك فيها مختلف الوزارات, وقطاعات العمل المدني, ولا تعالج في إطار كونها مسألة تخص وزارة الموارد المائية وحدها. إذن تحتاج قضية الأمن القومي في مصر, إلي التحرك في مسارين: أولهما: تشكيل مجلس أمن قومي بجوار الرئيس, يضم فريقا قويا من الخبراء والمتخصصين, يعاونونه في المناقشات, وفي صياغة خيارات للتعامل مع ما هو قائم من مشكلات, وما قد يستجد من تحديات مستقبلا. والثاني: استراتيجية أمن قومي شاملة, لإحداث صحوة في شرايين المجتمع, وفي جميع مستوياته الاجتماعية, وتتولي صياغتها مجموعة مستقلة, يتم اختيارها من أصحاب الخبرة, والمعرفة, والتعددية الفكرية, والرؤية الاستراتيجية, وعلي أساسها تنهض مصر وتتقدم وتزدهر, وتحتل مكانتها التي تستحقها في مجتمع الدول الصاعدة والناهضة. المزيد من مقالات عاطف الغمري