أنا أشعر بالفخر والاعتزاز كلما تذكرت أن دار الأوبرا المصرية كما نراها الآن تستند إلى تراث موسيقى عريق يرجع إلى القرن التاسع عشر عندما بنت مصر دار الأوبرا القديمة وسبقت بها كثيرا من بلدان العالم إلى اقتناء الموسيقى الكلاسيكية الغربية. وان مصر كانت على حق ومتسقة مع نفسها عندما سارعت إلى استقبالها فى عهد الخديو إسماعيل. وأصبح لدينا اليوم فنانون مؤلفون وعازفون ومغنون يمارسون ذلك الفن عن معرفة وثيقة باعمال اعلامه الخالدين مثل بتهوفن وموتسارت وفردى وبوتشينى وسائر المؤلفين الناطقين بلغة الموسيقى الكلاسيكية. أقول ذلك وفى ذهنى حفلات الأوبرا المصرية التى اتيح لى حضورها، وشهدت فيها ازدهار فريقها السيمفونى وفريقها الغنائى الاوبرالي، كما رأيت كيف يعتز الفنانون العالميون بالقدوم الى مصر ومخاطبة المصريين بلغة الموسيقى وجها لوجه. وقد اسعدنى الحظ أخيرا عندما حضرت حفلا عزف فيه عمل ضخم للموسيقار الفرنسى أوليفييه مسيان (Oivier Messiaen) هو سيمفونية توراتجيلا، وكان ذلك تحت قيادة المايسترو أحمد الصعيدى وبمشاركة عازفين فرنسيين هما عازف البيانو فرنسوا فيجيل (Francois Wiegel) وعازف آلة «امواج مارتينو» الالكترونية توماس بلوك (thomas blovh). ونظرا لان حظى من العلم بالموسيقى ضئيل فما أنا إلا أحد محبيها وهواتها فليس بإمكانى ان أفى بحق الثناء الواجب للأستاذ المايسترو ولفريقه من العازفين المصريين والاجانب. وما أقوله هنا فى تقدير هؤلاء الفنانين ليس سوى كلمة على سبيل التحية بناء على انطباعاتى وطريقتى فى تذوق الموسيقي. وأرى من هذه الزاوية ان من مزايا الصعيدى سعة أفقه واستعداده الدائم لاستكشاف واستقبل اعمال التجريب والتجديد إلى جانب الأعمال التى استقرت مكانتها فى «ربرتوار» الموسيقى الكلاسيكية. وقد تأكدت لدى هذه المزية عندما رأيته يقود الاوركسترا فى عزف سيمفونية مسيان. وهى عمل طليعى ملحمى صعب يتألف من عشر حركات (بدلا من حركات السيمفونية التقليدية الأربع). ولكن المايسترو المصرى تمكن من تفسيره على نحو رائع. وينبغى ان اشير هنا الى أن سيمفونية مسيان عمل لم يكن لى به سابق علم، وأن معرفتى بمؤلفه محدودة، وأن القليل الذى عرفته منه لم يقرب موسيقاه من نفسي، ولم يحرضنى على الاستزادة منها. وذلك ان موسيقى مسيان تخرج عن نطاق القوالب الموسيقى «المقامية» كما يقال، وأنا محافظ أفضل السير فى الطرق المعبدة، ولا أقبل على الأعمال «الحداثية» فى القرن العشرين. ومع كل ذلك، فقد تغير موقفى تماما عندما استمعت الى موسيقى مسيان «اللامقامية» تحت قيادة احمد الصعيدي، وأصبح الموسيقار الفرنسى قطب جذب فى دائرة اهتماماتى الموسيقية وصرت من ساعتها اتعجل الاستزادة من موسيقاه. فكيف حدث ذلك؟ كان لهذا العمل وقع غريب على أذنى فى بادئ الأمر، ولكنه تكشف تحت قيادة المايسترو عن قوة تغلبت على كل مقاومة. وليس باستطاعتى ان اشرح الأسباب الفنية العميقة لهذه القوة الاسرة. واكتفى بوصف احد مظاهرها، فأقول إن للموسيقى مثلها مثل سائر الفنون معجزات تتحقق احيانا. وذلك ما حدث فى تلك الأمسية التى أسعدنى الحظ فيها بالاستماع إلى الأستاذ أحمد الصعيدى يقود فرقته فى عزف سيمفونية مسيان. وقد وصف المؤلف عمله هذا بأنه »أغنية حب« . وقيل إنه »أغنية حب ونشيد للفرح والزمان والحركة والإيقاع والحياة والموت« . ويستطيع من هم أكفأ منى أن يحللوا السيمفونية بناء على هذه الإشارات، وأن يبينوا موقع الحب فى هذا العمل الذى لا يخلو من الصخب والعنفوان، هذا العمل الذى أراد مؤلفه أن يحيط فيه بموسيقى الكون وإيقاعه ومصير الإنسان فيه. وإذا نحن الهواة اتخذنا من العنوان الذى اختاره المؤلف دليلا إلى الفهم، فقد يكون من الممكن أن نقول: إن للحب مكانا بالفعل فى سيمفونية مسيان، ولكنه مكان معرض مقلقل معرض للخطر. فالحب فيما يبدو يتجلى فى بعض المقاطع التى تتميز بالغنائية والحنان، ولكنه سرعان ما يتوارى وينهزم لأن المؤلف يحرص بصفة منظمة على كبحه وردعه، إلى أن تأتى فى المقطع الأخير لحظة الانتظار الغامر والتيار الجارف والنشوة الكاملة . ولو صح هذا الفهم ، لكان العمل تعبيرا عن الحب فى صراعه مع القوى الكونية. فهل وفقت فى هذا الوصف؟ أرجو أن يأخذه القارئ والقارئ الخبير بصفة خاصة على علاته، فهو اجتهاد لها و من من بين عدة اجتهادات ممكنة . وليس لدى شك فى أن الخبراء من الموسيقيين والنقاد يستطيعون تقديم أوصاف أفضل وأدق على ضوء قراءتهم الفاحصة للنوتة وما حدث فى ثناياها وما أوحى به. والواقع أن ما قلته هنا وسيلة لتحقيق غرض آخر فى نفسى، وهو الإشادة بدار الأوبرا المصرية وبفنانيها، والدعوة إلى الاهتمام بالموسيقى الكلاسيكية ما كان منها مقاميا أو غير مقامى. وأضيف إلى ذلك أن هذه الموسيقى هى إذن أقرب الفنون إلى الفلسفة من حيث الرغبة فى التوصل إلى وعى شامل بالكون ومكان الإنسان فيه ، ولايتسع المقام هنا لشرح هذه الفكرة التى أرجو أن أعود إليها فى مناسبات أخرى. ويكفى أن أقول إن استقبال هذه الموسيقى الرفيعة ليس من شأنه التأثير سلبا على موسيقانا «الشرقية» أو النيل من مكانتها. بل لعله أسهم فى الازدهار الذى عرفته فى القرن العشرين. وهناك من ممارسى الموسيقى ومحبيها من يشمل بحبه أشكالا مختلفة من أشكال التعبير الموسيقى وأيا ما كان موطنها الأصلى. حدث ذات يوم أن قال لى صديق: »أنا شرقى«. وكان يعنى بذلك أنه لا يحب إلا الموسيقى الشرقية. وليس لى أو لغيرى أن يأخذ على هذا الصديق انحيازه لموسيقى بلاده، فهو حر فى اختياراته الفنية طالما خلت من التعصب. وهذه الحرية التى يحق له أن يتمتع بها تعنى أيضا أن من حق غيره من الناس أن يختار على نحو آخر. ورأيى الشخصى هو أن أفضل الاختيارات هو أن يكون الإنسان متعدد الاهتمامات الموسيقية، وألا يكون إيثاره لنوع معين من أنواع الموسيقى سببا لإغلاق الباب دون سائر الأنواع. والأمر شبيه هنا بانتماء الفرد أى فرد للغة بعينها هى لغته الأصلية اللغة الأم كما يقال ، فهذا الانتماء لايتعارض مع تعلم اللغات الأجنبية، والاستمتاع بالتعرف على طرق الغير فى التعبير بل والتمكن أحيانا من النطق على محو ما ينطقون. والموسيقى الكلاسيكية تسعى كما قلت إلى الإحاطة بكل شىء، فهى تتطلع إلى الأبعاد الكونية، ولكنها تعنى أيضا بأبعاد الحياة العادية المألوفة مثل تقلب الطقس وغناء الطيور ، أو الرقص، أو إيقاع العمل، أو الأغانى الشعبية، أو أغانى المهد. بل يبدو أن الرغبة فى الارتفاع والشمول لا تكون صادقة, إلا إذا ارتبطت بالالتفات إلى حياة الإنسان اليومية إذ يسعى إلى كسب قوته، أو يتهيأ للحرب ، أو يطلب الراحة والاستجمام ، أو ينشد الاحتفال بالمناسبات السعيدة، أو يبكى الموتى. لمزيد من مقالات عبدالرشيد محمودى