فوق صفحة الماء ... سار القارب متهادياً رويداً رويداً يتراقص مع الموج الناعم... يحتضنه برفق على لحن شجى يعزفه الموج مع تلاطمه بالقارب يداعبه ويهدهده . فوق هذا القارب الذى رفع شراعه الأبيض كمن يلوح براية بيضاء رمزاً للسلام, جلس عدة أصدقاء جاءوا مدينة أبو سمبل لزيارتها, بينهم ابكار حمدونب الذى كان يطلق عليه أصدقاؤه اسم بكار النوبى.. المياه على مدى البصر .. هائلة .. لكن حزينة.. مقيدة .. القيود سدود تحرمها حرية الانطلاق نحو الشمال .. تظل حبيسة تتكاثر فى موقعها كما لوكانت على موعد لقاء واتفاق على مكان تجمع بعد رحلة طويلة .. طويلة .. من منابعها حيث ولدت ليمضى بها العمر تقطع الأميال .. تتقدم نحو النهاية.. نهايتها المحتومة، حيث يقذف بها فى البحر لتذوب داخل أمواجه العاتية لتفقد كيانها وحلاوتها.. يطعمها ملحَه وتصير جزءا من مخاطره بعد أن تغتسل وتتخلص من الطمى والغرين . اضطجع بكار على ظهره واضعا يديه تحت رأسه محملقا فى السماء .. بينما جلس مرافقوه الثلاثة يتبادلون الحديث بينهم وبين المراكبى . أخذ بكار يحملق فى السماء الصافية وطيور القمرى .. أحب الطيور الى نفس النوبى ..تطير فى جماعات ثم تتفرق لتعود الى الAيابسة على رؤوس النخيل بين جريدها لاجئة من القيظ والحر الشديد .. أحب النوبيون القمرى أو (دوغيه)؛ أحبوا صوته الرتيب حتى شبهوا الفتاة الجميلة الوديعة (بالقمرية) خاصة حين يغنى بصوته الدافىء . أعاده القمرى الى الماضى .. ماضيه الجميل طفلاً وشاباً .. وعلى الفور تركزت أمام عينيه ذكرى يوم مغادرته قريته النوبية منذ أكثر من عشرين عاما .. حين اتبع تقاليد النوبة .. كان عليه قبل السفر أن يخطو سبع خطوات عند باب داره أثناء خروجه .. وتناول أهله حفنات من التراب من سبعة أماكن داستها قدماه .. وقاموا بنثرها داخل الدار حتى تظل رائحته داخل داره مهما طال فراقه .. فهو عائد.. عائد الى بلاده مهما طالت غربته. توالت الذكريات كلوحات فنان تشكيلى رسمها وأبدع خطوطها بألوانها الزاهية .. تذكرت الاحتفال بزفافى .. مناديةَ الأفراحِ ذات الملابس الزاهية وغطاء الرأس بألوانه الصارخة .. تحمل بيدها طبقا مزركشا من الخوص بداخله علبه خشبية حمراء تسمى عندنا (أجل) .. تطلق الزغاريد .. تتجاوب معها نسوة القرية وبمرور موكب هذه السيدة فإن أهل القرية كلهم يعتبرون أنفسهم مدعوين للمشاركة فى العرس .. وفى المساء تمت مراسم تخضيب الحناء .. أما اليوم التالى .. يوم الزفاف فتجمَّع رجال القرية لعقد القران .. ثم تركتُ المكان حتى تتم زفةالبحر .. توجهتُ نحو النيل .. اغتسلتُ وسبحتُ ثم ارتديت ملابس العرس . أتخيل أننى أسير طافياً فوق هامات النخيل والسباطات المرصعة بحبات التمر ، يا ترى أين أنت يا غابات النخيل ؟! أين ذهبتِ يا قوافل الطيور الصغيرة التى كانت تستكين بين أذرع السعف ؟! هاجرتِ أنتِ أيضا ؟! الى أين هجّروك ؟ هل تمسكتِ بمنفاك الجديد بجوار عشيرتك من البشر .. أم همتِ فى الفضاء باحثة عن جنان أخرى . كم كانت ظلال النخيل ملاذا لنا وخلاصا من حرارة الشمس وقيظها .. نتجمع فى سترها ونقتات من طيبها .. ثمرها الأخضر (دفية) منه ما يؤكل أخضر (دسى كب) ثم يتم نضوجه عندما ينتصف موسم الصيف ، حين يكرس الجميع أنفسهم لجمع المحصول .. المناجل تقطع عراجين البلح الناضج حتى تتجرد النخيل من عراجينها المكتنزة بالتمر, كحبلى أفرغت ما فى رحمها من أجنة بعد تمام نضجها .. ثم تترنح النخلة الفارغة من ثمرها متمايلة مع الريح .. تتراقص .. فرحة .. فقد أتمت مهمتها . وأتذكر ذلك الشاب الذى تسلق أمامى أطول نخلة فى القرية .. وصل الى قمتها فى لحظات ثم بدأ الهبوط متأبطاً السباطة الوحيدة الباقية التى كانت متروكة عمداً .. إنها نصيبه مقابل تلقيح النخلة وجنى محصولها .. تلك عادة أهل بلدى. ياه يا أمى .. أذكرك الآن .. سلمت يداك .. كانت تعد لى أكلتى المفضلة ( أنغسيرية ) .. نوع من الخميرة بعسل التمر... هذه الوجبة المفيدة المفضلة القوية التى تمنع العطش وتقوى البدن.. انتبهت .. حين انتبه لى رفاقى فى القارب لاحظوا غيبتى عنهم وجولاتى فى ذكرياتى .. بدأ قرص الشمس فى الارتفاع .. ترسل أشعتها الذهبية المائلة نحو المياه .. تمتزج بها تهيىء الدفء .. تغوص داخلها .. لتستحم ... بادرونى بالسؤال: - المؤكد أنك تتذكر الماضى .. يوم فجعنا بقرار التهجير - يوم لن أنساه - تركنا بيوتنا ومعها الذكريات .. مثل المهاجرين هربا من عدو جبار فى معركة خاسرة . - كتب علينا ألا نعود .. فمنطقة النوبة القديمة ابتلعها السد العالى .. ضاع أمل العودة .. ضاعت الأرض .. ضاع معها الماضى .. التراث الحضارة .. الآثار .. ضاعت المعالم وخطوات البشر وبصماتهم . - هل تستطيع أن تخمن ماذا نعبر فوقه الآن !! - فى قاع هذه المياه المعتمة أرى كل شىء .. قريتى .. دربى ..دارى.. مدرستى .. نخلتى المفضلة .. قد اكون الآن فوق المعابد .. التماثيل .. المسلات .. آثار حضارة أجدادى منذ آلاف السنين .. - لماذا عيناك مغرورقتان؟؟ - قد أكون الآن فوق قبر والدى!