يكبرنى بجيلين أو أقل، وعلى هامش الحوار قال لى إن جيلكم يمتلك فرص حياة أفضل بما لديه من براح المعرفة و ثورة الإتصالات و الانفتاح على الناس و العالم، ثم صمت لثانية قبل أن يقول آسفا « جيلنا إحنا كان عالمه ضيقا». قرات قبل عدة سنوات مقالا أجنبيا يتحدث عن الإنسانية فى ظل هذا التطور، لا أتذكر منه سوى جملة واحدة لكنها تلخص كل ما قيل « «أصبحت الإنسانية قادرة على الوصول إلى المريخ لكنها أصبحت عاجزة عن عبور الشارع لزيارة جار و الإطمئنان عليه». وددت أن أقول ل «عمو»: خذ كل هذة الاجهزة التى تحسدنا عليها، فقد تحولت إلى سجن، خذها و أعطنى يوما واحدا بدون موبايلات، وناس من لحم و دم يتحدث الواحد إليهم على راحته دون خوف على الباقة، وأقارب تجتمع بالأمر كل أسبوع فى بيت واحد من العائلة ويكون مجال العتاب على الغياب بينهم « مش لسه كنا سهرانين عندك من أسبوع؟» و ليس كما يجرى الآن « مش لسه عامل لك لايك على فيس بوك من يومين؟»، خذ الاجهزة و أعطنى ناس تهنىء بعضها فى المناسبات و «الوش فى الوش» و ليس عبر رسائل سابقة التجهيز مخزنة فى ذاكرة المحمول يتم إرسالها بالجملة كتأدية واجب، أعطنى ناس تأخذ بيد بعضها البعض بأياديها، وليس بالضغط على الكيبورد، ناس تصنع ذكرياتها بالحركة و ليس ب «التاج»، وخروجات ينظر الناس خلالها إلى وجوه بعضهم البعض وليس إلى الشاشات، أعطنى خروجات أصلا . وددت أن أقول ل «عمو»: أن مواليد ما بعد ثورة الإتصالات و المعرفة لن يعانوا كما يعانى جيلنا الذى ذاق شيئا من الحياة فى هذا العالم الضيق الذى تتحدث عنه، وعرف بالوقت قيمة الفارق، قيمة الجار الذى يعمل له الواحد حسابا كأنه الاب بالضبط، و قيمة المدرس الذى لو صادف و لمحه الواحد فى الشارع يخاف احتراما له ويبحث عن طريق آخر حتى لا يسأله « رايح فين و بتعمل إيه فى الشارع» كان للأساتذة هذا الحق، قيمة القوانين التى تجعل كل شىء يدور فى نظام و تحت السيطرة، لقد أختبر جيلنا أن هناك قانونا لكل شىء، حتى زجاجة المياه الغازية كان هناك قواعد زمانية و مكانية للحصول عليها كمكافأة، يفتقد فكرة أن الناس كانت تفكر كثيرا قبل أن «تفتح بوقها»، و تمسك كل واحد بأن «يحترم سنه»، و تفانى الجميع فى احترام حقوق الغير. وددت أن أسأل محدثى ألم تلاحظ ما فعلته ثورة الاتصالات التى تحسدنا عليها؟، صرنا لا نفعل شيئا سوى الكلام، «يرغى» الواحد طول النهار و الحقيقة أنه لم يفتح فمه بكلمة واحدة، هناك من صار مشغولا بهذا الرغى بحثا عن تهليل و تصفيق المتابعين مما قاده إلى بارانويا مبكرة، وهناك من نزل ملاعب الرغى بالبارنويا الجاهزة. لم تعد العائلة تهتم ب «اللمة» فى البيت الكبير قدر اهتمامها ب «اللمة» فى جروب ال «واتس آب». لم يعد الزعل سببه أن «ما سألش عليا و أنا عيان» و لكنه أصبح سببه أنه «عمل لى بلوك». أصبحنا بعد العودة إلى المنازل نتحول إلى قرود فى قفص التليفزيون «تتنط» و تقفز من محطة لأخرى و تصفق كالقرود، كلما ألقى لها المذيع بحبات الفول السودانى الساخنة. اليوم نخزن لحظاتنا الحلوة على بروفايل يمكن سرقته فى ثانية بقطعة من عمرنا محفوظة به، و اختفى المكان المقدس الذى كنا نخبىء فيه ألبومات الصور بكل مقاساتها. تعلم البعض بسبب ثورة الإتصالات الوقاحة و الندية الزائفة و التباهى بالجهل والإصرار عليه وجنون الشهرة السهلة و استسهال الخوض فى الأعراض دون مراجعة من أحد و تذكر قبل هذة الثورة لو فكرت أن تخوض فى عرض أحد كنت ستجد من يقف لك و يقطع عليك الجملة قبل أن تكملها هذا لو افترضنا أنه كان هناك من يمتلك هذة الجرأة أصلا. أصبحنا نتلصص على حياة الآخرين دون أن يؤرقنا شىء، المضحك أن حياة الآخرين أصلا أصبحت مجرد بروفايل يمكن التلصص عليه. الأزرار التى نضغط عليها طول اليوم تقرب المسافات لكنها تُزيد فجوة التفاهم. انتهى زمان غلق باب الخصام بأن ما قيل كان «زلة لسان»،و تعلمنا ان نمسك على بعضنا البعض «سكرين شوت». كان تليفون البيت الذى لا يرد يدعو للقلق و أهمية زيارة صاحبه للإطمئنان عليها لكن عدم الرد على الموبايل يفتح باب الإهانات و سوء النية. جلسة الأسرة من كبيرها إلى صغيرها يدور الحوار فيها مبتورا لأن كل واحد مشغول فى عالمه الإفتراضى يرد على آخرين و يلقى الإفيهات و يتلقاها عبر هاتفه المحمول، إنتهى زمن قرصة الأذن التى تعلم الأم من خلالها ابنها قائله: «بص لى و أنا باكلمك». يا «عمو» حضرتك لا تعرف ما انشغلت به ثورة الاتصالات مؤخرا ودارت حوله الخناقات الحامية بداية من «هل تزوج المطرب المشهور من الممثلة؟» نهاية ب «هل المسيحى كافر؟». جيلنا الذى اختبر ملمحا من العالم الضيق الذى تحدث عنه «عمو» يفكر يوميا ألف مرة كيف سيربى أولاده فى هذا «المورستان»، و يستعين على النجاة بهم بدعوات الوالدين و محاولة عمل الخير لوجه الله. يمكنك أن تحسدنا على ثورة الاتصالات لأنها تخدم الباحثين عن العلم و عن فرص العمل ومحاولات تطوير الذات، عن مساعدة طارئة، عن علاج، عن دعم فى شكوى أو كارثة لا يهتم المسئولون بها، عن كشف فساد، عن أفكار جديدة لحياة حقيقية، عن منصة يقدم الواحد من خلالها نفسه وأحلامه، عن طريقة يمكن الوصول بها لآخرين ضاعوا منه فى زحام الحياة،عن فرصة لعمل الخير، يمكنك أن تحسدنا على أدوات تُيسّر أية خطوة إلى الأمام لكن ما العمل و الأغلبية يفضلون أن تكون خطواتهم فى دائرة هشة مغلقة؟. لم يختبر الواحد فى حياته كلها الوحدة كما اختبرها على هامش ثورة الاتصالات والتواصل، و لم يمر به جهل قدر ما يعاصره على هامش ثورة المعرفة، و «البراح» الذى تحدث عنه «عمو» هو سجن فى حقيقته، والعالم الذى أصبح قرية صغيرة تنسحب منه تدريجيا أخلاق القرية، وكما يقول الحسن البصرى «ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟، و لكن العجب ممن نجا كيف نجا؟». [email protected]