على منبر خفيض، مرتدياً جلباباً بنياً قصيراً، وبلحية متناثرة، ونبرات صوت هادئة أخذت ترتفع عندما دعا جموع السلفيين للمشاركة فى ثورة ضد النظام الجائر، قال: «عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهراً سيفاً؟». زاغت عيون الحضور، وتعالت الهمهمات فى مسجد صغير بحى «بولكلى»: «إن الشيخ يدعوكم للخروج على الحكام كما يدعو الشباب الغرّ الذى لا يفقه فى الدين»، «لم يقل بذلك شيوخنا فى الإسكندرية». استنكر البعض عليه ما قال، وخللوا لحاهم بأصابعهم، ففاحت رائحة المسك الحجازى لتعبق المكان، وتساءلوا: «ماذا جرى للشيخ؟»، وحده كان يعلم، أخبرته حاسته أن ثمة طارئاً على المشهد المصرى، وأن بنيان النظام القوى بدأ يتداعى، فقرر القفز مبكراً. فى نهاية السبعينات التقى «عبدالغفور» ياسر برهامى، بعد أن تخرج الجيل المؤسس الأول للدعوة السلفية من جامعة الإسكندرية، وعند هذه النقطة فى كتاب التاريخ، اختفى «عبدالغفور». تقول الروايات إن الطبيب حاول أن يفرض سيطرته على الجماعة لكن «برهامى» تصدى له فسافر حانقاً لأفغانستان ليشارك فى عمليات الإغاثة، قبل أن يشد الرحال لتركيا حيث تعرّف على سيدة تركية، تزوجها وأصبحت أُماً لأبنائه. عاد مرة أخرى للظهور بُعيد الثورة، طاف «عبدالغفور» على شيوخ الدعوة ليقذف فى حِجْر جلابيبهم ما لم يكن يتخيلونه يوماً، إنشاء حزب سياسى، اقشعرّت أبدانهم، وأرغدوا وأزبدوا، وصاح بعضهم: هذا كفر صريح! لجأ «عبدالغفور» لصديقه المتنفذ القديم «برهامى» يقنعه بأنها لحظة مفصلية، يجب أن تقبض «السلفية» على تلابيبها، وإلا تفرقت هيبتها على أطراف المعادلة السياسية بمدنيّيها وإسلاميّيها. مست الدعوة رغبة فى نفس «برهامى»، فتولى الدفاع عن الفكرة، ونظَّر لها، وعانى الجميع أياماً جراء المخاض، حتى وُلد قرار إنشاء حزب النور، وتولى «برهامى» بيده سكب ماء بارد على الأتباع المشدوهين. ظن «عبدالغفور» أن اللعبة سهلة، وأن بإمكانه السيطرة على الجناح السياسى، ما بقى الأتباع «الخلّص» هم مكوّناته، وطاف «عبدالغفور» الأقاليم، ليؤسس حزبه، الذى اقتنصه من بين أنياب الشيوخ. كانت عيون الشيوخ تترقب، والرجل يحاول إرضاء الجميع، حتى تصل السفينة لشاطئ طموحه وأمنياته إلى أن طفح الكيل ب«برهامى»، وتهاوى الحلم بعد أن ظن أنه بإمكانه خطف «النور» فى ليلة قمرية. فكَّر ودبَّر، فارتبك ثم قدَّر، هل أخسر كل شىء فجأة؟ ظهر وزيره «يسرى حماد» مشجعا:ً «لا تترك الفرصة تتضيع فهناك من ينتظر سقوطنا»، سارت السفينة فى جنح الليل، وراح الشيخ يجمع مطاريد «النور» المنشقين ليتحالفوا مع غريمهم ذى الأتباع «أبوإسماعيل» وظل السرُّ كامناً فى بئر، وعندما انكشف المستور قبل أن تنسج خيوط اللعبة، راح «عبدالغفور» ينفى للكل فكرة الرحيل من الحزب، وبعد أيام ظهر الرجل ليعلن الانشقاق والانضمام لجبهة «أبوإسماعيل» بينما السفينة تواصل سيرها.