بمثل الصاروخ المنطلق صعد الدور التركي في الوطن العربي صعودا هائلا منذ سنة2002 أي بعد وصول حزب العدالة والتنمية الي الحكم في تركيا. ولكن الصاروخ لم يستمر كثيرا في صعوده اذ تبين أن به عطبا كبيرا أدي الي سقوطه في الصحراء العربية بعيدا عن مساره الأصلي. كانت أبرز علامات الصعود التركي في الوطن العربي هي اعتراض البرلمان التركي في فبراير سنة2003 علي استعمال أراضي تركيا لغزو العراق, وخروج اردوجان, رئيس الوزراء التركي من اجتماع في دافوس في1 يناير سنة2009 احتجاجا علي عدم اعطائه الفرصة للرد علي بيريز, و تعيين داوود أوغلو وزيرا للخارجية والذي أثار نقاشا عربيا حول ماأسماه سياسة تصفير المشكلات( أي جعل المشكلات الاقليمية تساوي صفرا) وتوجهه الواضح نحو الوطن العربي. وقد ترجم كتابه العمق الاستراتيجي الي اللغة العربية ونفدت طبعته العربية في أيام قليلة. وفي يناير سنة2010 جاءت أزمة اهانة اسرائيل للسفير التركي أحمد شليكول علي يد نائب وزير الخارجية الاسرائيلي ايالون والرد التركي الحاسم علي تلك الاهانة ليزيد من صعود شعبية تركيا لدي العرب. وأخيرا جاءت عملية ارسال القافلة البحرية لكسر الحصار الاسرائيلي علي غزه وماتلاها من أزمة الهجوم الاسرائيلي علي القافلة في31 مايو سنة2010 وماأسفر عنه من استشهاد9 مواطنين أتراك, ليجعل من أردوجان زعيما عربيا بامتياز, بل ان عددا من المراكز البحثية العربية عقدت ندوات حول دور تركيا كشريك استراتيجي للوطن العربي. حذر بعض الدارسين العرب من أن التوجه التركي هو توجه يتم في اطار المصالح التركية مع الغرب وأن تركيا تلوح لأوروبا بورقة العرب أملا منها في الضغط علي أوروبا لكي تقبلها عضوا كامل العضوية. وأشار لنا البعض الي أن أردوجان غير القوانين التركية بما يتوافق مع القوانين الأوربية بما في ذلك الغاء أي قوانين مستمدة من الشريعة الاسلامية رغم توجهه الاسلامي. ولكن الكثير منا لم يحفلوا بهذه الاعتراضات أملا منهم في أن يروا تحالفا عربيا تركيا في الشرق الأوسط يعيد اليه التوازن الضائع. أتت ثورات الربيع العربي لتضع تركيا أمام مأزق حقيقي هو الاختيار بين دعم الشعوب العربية أو دعم المشروعات الغربية في الوطن العربي. ذلك أنه بعد اندلاع ثورتين شعبيتين في تونس ومصر, سارع الغرب الي محاولة هندسة الثورات العربية من خلال تحويل حركات الاصلاح السلمي العربية الي مواجهات مسلحة مع الأنظمة تنتهي بتدمير الدولة العربية. وكانت البداية في ليبيا حيث اندلعت ثورة سلمية حققت نجاحات في البداية لكن الغرب وبعض الأنظمة الخليجية التي تعمل لحسابه سرعان ماتدخلت لتحويل تلك الثورة السلمية الي عمليات تخريبية مسلحة لتدمير الدولة. في البداية اعترضت تركيا علي تلك العمليات ولكنها غيرت موقفها فجأة و بالكامل في منتصف الطريق للتحول نحو دعم عملية التدمير الاجرامية التي قام بها الأطلنطي في ليبيا بما في ذلك التواطؤ مع عملية اغتيال القذافي أسيرا والتي رتبتها هيلاري كلينتون من داخل ليبيا دون كلمة احتجاج من زعيم العدالة والتنمية. نجحت تركيا في الخروج غانمة بتجارتها واستثماراتها في ليبيا وكسبت ثقة الأطلنطي وثقة حلفائها في الخليج. وسرعان مااندلعت حركات الاصلاح السورية وتدخلت القوي ذاتها لتكرار السيناريو الليبي رغم أنه كان من الواضح أن تنظيم القاعدة هو جزء من تلك الحركات بدليل رسائل الظواهري الي أحرار سوريا. لم تكن تلك القوي تقصد الاصلاح السياسي في سوريا, ولكن كان المقصود الحقيقي هو اضعاف ايران من خلال ضرب حليفها سوريا. وبدلا من أن تسعي تركيا الي تطبيق سياسة تصفير المشكلات, وبدلا من أن تتدخل للتوسط لحل الأزمة فانها تدخلت لافتعال وتكبير الأزمة. فقد توافقت تركيا مع القوي الدولية والعربية الخليجية لتكرار السيناريو الليبي من خلال توفير قاعدة عسكرية خلفية في أراضيها لدعم عمليات الانشقاق علي الجيش السوري وتسليح القوي المنشقة, بالاضافة الي توفير قاعدة سياسية لتلك القوي تحت مسمي مجلس استانبول. وقبل ذلك كانت تركيا قد غيرت موقفها من الملف النووي الايراني. فبدلا من أن تستمر في الجهد المشترك مع البرازيل لحل المشكلة فانها تحولت نحو ادانة ايران لأن مسمي المرحلة الراهنة هو تدمير البرنامج النووي الايراني حتي تظل اسرائيل الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط, وسوريا مجرد مرحلة في هذا الطريق. مما دعا ايران الي رفض عقد أي مفاوضات مع أوروبا في تركيا, ورد اردوجان بالتصعيد ضد ايران. كذلك أعادت تركيا حقبة المواجهة المسلحة مع الأكراد وعادت لقصف معاقلهم في شمالي العراق. تجلي ذلك كله في أزمة اسقاط سوريا الطائرة الحربية التركية فانتوم4 فوق الأراضي السورية في24 يونيو. فرغم أن جول وأوغلو اعترفا باسقاط الطائرة في المجال الجوي السوري الا أن اردوجان راح يؤكد العكس وتعمد تصعيد الأزمة لكي يوجد مدخلا لحلف الأطلنطي لكي يكرر في سوريا الجريمة التي ارتكبها في ليبيا بعد أن فشل الحلف في ايجاد غطاء قانوني في مجلس الأمن نتيجة للفيتو الروسي الصيني. وهكذا سارع أردوجان بطلب تدخل حلف الأطلنطي في اطار المادة الرابعة من معاهدة الحلف والتي تتحدث عن التشاور في حالة حدوث تهديد لأمن أي من الدول الأعضاء واجتمع مجلس الحلف لكي يدين سوريا لأنها أسقطت طائرة معادية فوق أراضيها. الغريب أنه عندما قتلت اسرائيل الأتراك التسعة في الباخرة مافي مرمرة لم تطلب تركيا انعقاد أي اجتماع لحلف الأطلنطي لاتخاذ أي اجراءات ضد اسرائيل, كما أن الأطلنطي تجاهل الأمر كلية, كما أن تركيا تهدد باجراءات عقابية ضد سوريا لتجرؤها علي حماية أراضيها, وتهددها برد قاس لم نره عندما أهانت اسرائيل وقتلت الأتراك علي ظهر مافي مرمرة. بالنسبة لنا معشر المصريين كان لنا نصيب في تلك التحولات الدرامية التركية كان أبرزها مطالبة اردوجان للمجلس العسكري بتسليم السلطة للدكتور مرسي قبل أن تعلن اللجنة العليا للانتخابات عن فوزه رسميا. تصرف اردوجان كأن ارادته تعلو ارادة المصريين, بل كأنه السلطان العثماني يأمر رعاياه في خرق للسيادة المصرية. الواقع أن الوطن العربي يمر بمرحلة اعادة صياغة شاملة تتطلب من قوي الثورة الاتتباه لما يراد بهذا الوطن من تدمير وتفتيت وتمكين لاسرائيل من تنفيذ مشروعها الاقليمي. المزيد من مقالات محمد السيد سليم