يعيد هذا المقال فحوي ما نشرت في2008, عن رحيل واحد من الآباء المؤسسين للثورة الشعبية العظيمة, وما زال مضمونه معاصرا وملحا. رحل إلي دار البقاء يوم الخميس الثالث من يوليو2008 إنسان من أعظم أبناء مصر المعاصرين. غادر الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري الفانية عن عمر يناهز السبعين عاما قضاها كلها فيما ينفع الناس والوطن مخلفا وراءه تراثا هائلا من الإنتاج الفكري المتميز والعمل العام الدؤوب والمناضل من أجل الحرية و الكرامة الإنسانية في مصر, والوطن العربي, بل في العالم أجمع, فأوضح ما كان يميز الفقيد هو إنسانيته المتألقة. كان, علي قامته السامقة, شديد التواضع, دمثا ورقيق الحاشية وعذب السلوك حتي الإحراج. ولكن هذه الرقة البادية كانت تغلف مناضلا صلبا من أجل القيم الإنسانية السامية. فقدنا برحيله باحثا مؤصلا ومفكرا موسوعيا بالغ الرصانة وعميق النزعة الإنسانية بلا أدني شك. بدأ مسيرته الفكرية دارسا ثم أستاذا متميزا في النقد الأدبي, ولكن تميزه في هذا المجال الأثير لديه, متزاوجا مع عشقه للإبداع الفني بجميع أشكاله, والذي أكسبه بعضا من سمات شخصيته المحببة, لم يشف غليل الإنسان القابع في أعماق عبد الوهاب المسيري. فعندما استغرق العرب جميعا في غياهب الإنكار ثم الشجب والاستنكار, صراخا وعويلا, بشأن اغتصاب فلسطين, أدرك العالم المناضل عبد الوهاب المسيري أن بداية المقاومة الناجعة لهذا المشروع الصهيوني الباغي تكمن في امتلاك الفهم العلمي لأصوله وسبل حركته, فانكب سنين طوالا قاربت العشرين, وبموارده الذاتية, مضحيا بكل ما يملك حتي صحته, علي مشروعه العبقري الذي انتهي بموسوعته الفريدة عن اليهود واليهودية والصهيونية التي يمكن اعتبارها, بلا أدني مبالغة, العمل الأهم في ميدان العلوم الإنسانية في الوطن العربي, ويزيدها قيمة الحس الوطني المرهف الذي صاحب إنجاز العمل ويشع من كل سطر فيه, متمثلا أبدا القيم العليا للثقافة العربية الإسلامية, حتي كان يحسب في أواخر أيامه علي التيار الإسلامي المستنير ورعي تأسيس حزب الوسط. ولكن هذه الإنجازات الروائع لم تكن لتكفي عبد الوهاب المسيري. فسطر في تاريخه, وحتي نهاية أيامه سطورا مضيئة ومبهرة كمناضل صلب من أجل الاستنارة والحرية والعدل والكرامة الإنسانية. ويعنيني هنا المعلم الأهم في سيرة المسيري النضالية, وأعني موافقته علي تقلد موقع المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير كفاية وهو شيخ يقارب السبعين يكافح المرض اللعين ببسالة منذ أكثر من عقد من السنين, وقد أنهك المرض العضال جسده حتي أشفق كثيرون علي الرجل, وربما علي الحركة, من هذا الالتزام الأسطوري. وهذا جانب آخر من شخصية المسيري المناضلة, فقد أنهي مناقشة حول مستقبل كفاية قبل أيام معدودة من رحيله بالقول المتفائل ما زال في العمر بقية! وربما ساهم اعتلال صحة عبد الوهاب المسيري, ورقته البالغة, في حالة الركود التي عانت منها كفاية أثناء ولايته. ولكن يقيني أن وجود المسيري علي رأس الحركة أضفي عليها جلالا, وجنبها مزالق كثيرة. ولكن ظل عبد الوهاب المسيري حريصا علي حيوية كفاية وسلامة مسيرتها حتي اللحظات الأخيرة من حياته ومن منظور أصولي يحترم مبادئ الحركة. ولا أخالني أذيع سرا إن ذكرت هنا أن عبد الوهاب المسيري, بتواضع العالم الجليل, و عذوبة الإنسان الجميل, قد أسر لبعض الخلصاء في لقاء أخير مع البلدان العربية قيادات الحركة بنيته التخلي طواعية عن موقع المنسق العام لكفاية في سبتمبر التالي بمناسبة بلوغه السبعين وانقضاء عامين علي توليه موقع قيادة الحركة, مفسحا الطريق لاختيار منسق آخر, وفاء لمبدأ تداول السلطة الذي تصر عليه الحركة. ولكن المشيئة لم تمهله. مثل هذا المفكر العلم والعالم الجليل وسام علي صدر كل مجتمع شرف بانتماء المسيري له أو أي مؤسسة مجتمعية شرفت بانتسابه إليها. وقد خدم مصر والمصريين بتفان واقتدار طوال أكثر من نصف قرن بمختلف أشكال العمل التربوي والفكري والوطني. فبم كافأه الحكم التسلطي الذي كان جاثما علي صدر مصر؟ أكتفي بواقعات ثلاث, الأولي ربما غير معروفة للكافة, والثالثة شكلت فضيحة لنظام حكم الاستبداد والفساد في العالم أجمع عند رحيل العلم عبد الوهاب المسيري. لقد رفض الحكم التسلطي الإنفاق علي علاج الفقيد الراحل علي نفقة الدولة التي خدمها المسيري بأكثر وأقدر من أي ممن كانوا يرتعون في المال العام نهبا وفسادا. وأكرر رفض لأن الفقيد طلب, بوساطة من أحد أركان الحكم التسلطي, أن تتولي الدولة نفقات علاجه المضني والمكلف كثيرا. ولكي نتبين مدي إيغال الحكم التسلطي في الخسة, يكفي أن نعيد إلي الذاكرة تسارع رؤوس الحكم التسلطي الساقط للاحتفاء بلاعبي كرة القدم, والهرولة لعلاج أحدهم أو أحد المغنين الرقعاء أو الممثلين التوافه للعلاج في أرقي المصحات خارج البلاد علي نفقة الدولة ومن دون طلب. وتمثل الجرم الثاني في إقدام حثالة من عمال جهاز البطش, لا يرقون علي سلك القيمة البشرية لنعال المسيري, بالتعدي الجسدي علي العلامة الجليل في إحدي تظاهرات كفاية. وأتبعها بلطجية النظام, سواء تخفوا في زي أجهزة الأمن أو في زي مدني, بخطف العلامة الجليل وقرينته وتركهما علي طريق صحراوي. وأتت ثالثة الأثافي عندما حل الأجل ولم يشارك في مراسم رحلة المسيري الأخيرة أي ممثل عن الدولة التي اغتصبها الحكم التسلطي في مصر. هذه ذنوب لا تغتفر, ولن يغتفرها الشعب لأساطين الحكم التسلطي, وإن وجب اعتذار رؤوس الحكم التسلطي عن ارتكابها لو كان لديهم بقية من حياء. إن الدول العظيمة تحتفي بأمثال عبد الوهاب المسيري حيا أومحتسبا عند ربه. أما أنظمة حكم الرقاعة فلها من يحظون باهتمامهم وليس من بينهم المفكرون الأجلاء والوطنيون الأفذاذ. وعليه فمن حظ الفقيد ان لم يدنس جنازه حضور ممثل للحكم التسلطي وقتها. وإن لم يبد سلوك الحكم التسلطي الساقط غريبا, علي خسته المفجعة, يحز في النفس أن لم يتنبه الحكم الراهن, وبعضه يدعي الثورية وبعضه الآخر متسربل بالإسلام والوطنية, لتكريم ذكري عبد الوهاب المسيري بما يليق بقامته التي فقدناها, وإن بقيت آثاره العظيمة تنير لنا الطريق إلي الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى