البراءة التي يتحلي بها حسن طلب تجاه العالم هي ما يجعله ينسي الضغائن بسرعة. حسن جهوري في كل شيء.. صوتا وشعرا وملامح. وجهوري أيضا في التسامح والنسيان, حتي وإن فاته التقدير. حين فاز, مؤخرا, بجائزة التفوق في الآداب, لم أفرح كثيرا, لأنها تأخرت عليه, مع ذلك قلت: ربما تفك ال'100 ألف جنيه', أزمات رجل تخطي الستين, وما زال, شأن أي مثقف مصري, يدير حياته يوما بيوم. حسن نموذج للشاعر الذي يصبر علي القصيدة, لا يستعجلها,غير أنه لايطيق الصبر علي الأدعياء وكتبة المؤسسة, ولهذا فاتته الجوائز. لكنه راض, لأن القصيدة, بالنسبة له, أعظم جائزة يحصل عليها الشاعر. الفوز بالجوائز, في كل الدنيا, مدعاة للفرح, لكن الجوائز هنا إما أن تذهب لمن لا يستحق, أو تأتي بعد الموت أو لا تأتي علي الإطلاق. ولهذا حين سألت طلب: ماذا تعني الجائزة حين تأتي متأخرة؟ لم يستطع كتمان الأسي وهو يقول: -تعني أن هناك خللا في القوانين والجهات التي تمنحها. وبالنسبة للمثقفين, تعني عدم الثقة فيها وعدم الاكتراث بها, معنويا علي الأقل. إذن لا يبقي من الجائزة إلا ما تمثله من قيمة مادية, يحتاجها الشاعر لكي يعيش. * يبدو أن الشعراء, في مصر بالذات, هم أصحاب الفرح المؤجل دائما؟ - هذا صحيح, لكي يفرح الشاعر, لا بد لذلك من شروط: أولها أن يكون مرضيا عنه, ثانيا أن تكون له شبكة علاقات بمن يملكون المنح والمنع. * كأن الثورة لم تقم! - أو قل: كأنها قامت لتنام مرة أخري. وكلي أمل ألا تستغرق في النوم. لا أذكر أين قرأت أن الثورة الناجحة ليست ثورة واحدة, بل ثورات', حلقات بعضها يأخذ برقاب بعض حتي تكتمل السلسلة. * أظن أن المثقفين, بدلا من أن يكونوا طليعة الثورات, هم في الغالب طليعة مصالح ذاتية ضيقة؟ - أنا ضد التعميم, لا يمكنك وضع المثقفين جميعا في سلة واحدة. هم, كغيرهم من الفئات, فيهم الصالح وفيهم الطالح. * لكن المثقفين, من بين هذه الفئات, ينفردون بالقدرة علي التبرير؟ - المثقفون للأسف قادرون علي توظيف معرفتهم, قادرون, كما تقول, علي التبرير.. أن يلبسوا الحق بالباطل, وهنا مكمن الخطورة. كما أن المثقف, وهذا هو الأخطر, ضمير أمته, فإذا فسد هذا الضمير, فسدت الأمة كلها. * دعني أسألك عن الشعر, حين يكتب وقت الثورات. أنت تورطت في ذلك..خالفت عادتك في الصبر علي الاختمار وأصدرت ديوانين عن الثورة. ألا تعتقد أنك تعجلت بعض الشيء؟ -( بضحك يشبه الاعتذار) سؤالك يضعني في مواجهة نفسي, لكني سأستخدم حيل المثقفين في التبرير. أعتقد أن هذين الديوانين امتداد لمشروع سابق علي الثورة, وهو مشروع بدأته بقصائد مباشرة عن' مبارك' منذ عام2005, نشرت في ديوان' عاش النشيد', هذه التجربة, الحادة التي تكاد تكون تصويرا فوريا للوقائع والأحداث, بما فيها من لغة خطابية وميل للشعار علي حساب الشعر, هي عملية وصلت بها الخيط, قبل يناير وبعده, ليس أكثر, لكن لا تنس أن هناك خيطا آخر أعمل علي وصله طوال الوقت.. هو الشعر الذي أجد فيه نفسي, وآخره ديوان' يكتب الباه, يقرأ الجسد'. هذا الشعر يمثلني أكثر, بينما في القصائد الثورية أعمد إلي تقليل خسائري. هذه ثورة كبري لا يمكنك أن تتحاشي الانفعال بها والتعبير عنها. الهروب من الكتابة عن الثورة صعب, والأصعب أن تكتب عنها. * ما الذي تذكره مما كتب عن الثورة من شعر؟ - أعتقد أن هناك تجارب قليلة نجت من هذا المأزق واستطاعت أن توفق بين الشعر والشعار, وأهمها ديوان محمد سليمان' كالرسل أتوا', وديوان حلمي سالم' ارفع رأسك عالية', وما كتب عن الثورة في ديوان' طلل الوقت', لأحمد عبدالمعطي حجازي. * وقصائد النثر؟ - لم أتابعها بشكل يمكنني من الحكم عليها, لكن أظن أنني قرأت منها قصائد علي فترات متفرقة في الصحف والمجلات, وأظن أن أثر الثورة علي قصيدة النثر يجب أن يكون أوضح منه في أي قصيدة أخري, بمعني أن هذه القصيدة حين تكتب عن الثورة ستكون علي المحك, ومن ثم عليها أن تتحدي نفسها. * هل الشعر بالضرورة فعل ثوري؟ - دعني أعمم هذه المرة, فالفن عامة فعل ثوري, لأنه لا بد له أن يستظل بمظلة الحرية, ولا بد له أن ينشد ما هو أبعد من مرمي البصر, أي أنه من الممكن أن يثور حتي علي الثورة نفسها * والمؤسسة الثقافية.. كيف تبدو لك بعد عام ونصف علي الثورة؟ - أظن أنها شاخت. هي تجاهد, لتسترد شيئا من الثقة المفقودة فيها. المشكلة أنها ما زالت منتمية للنظام القديم الذي جعل الثقافة, علي يد فاروق حسني, في خدمة النظام. البعض من القائمين علي مؤسساتنا الثقافية يحاول جاهدا الخروج من العباءة القديمة, والأيام القادمة ستحسم ما إذا كان سينجح أو لا, خاصة أن هناك تحديا كبيرا سيواجهنا جميعا, هو أسلمة الثقافة. لم يعد الأمر مقتصرا علي مطاردة النظام القديم, بل النظام الجديد أيضا. * لماذا كل هذا الخوف من الإخوان؟ - لأسباب بعضها يرجع إلي كراهية الاستبداد. فالجماعة, التي تقوم علي فكر واحد هو الطاعة والولاء للجماعة, قبل الوطن حتي, ستجلب للأذهان فكرة القطيع التي تتنافي تماما مع الثقافة. الثقافة اختلاف وتنوع وتعدد, وليست' يونيفورم' تنبهم فيه الملامح الفردية. وهناك جانب آخر أكثر خطورة, هو أن يكون هذا التوحيد القسري باسم الدين. * بوصفك أستاذا للفلسفة.. أين يلتقي الفن بالدين, ومتي يتجافيان؟ - هذا سؤال شغلت كثيرا بالإجابة عنه, وخرجت بقناعة أن الفن والدين صديقان حميمان, لأنهما يتوجهان إلي أعمق ما في الإنسان..روحه, ويستخدمان اللغة نفسها.. لغة الرمز, حتي في أبسط مستوياتها, الشاعر يقول:' حبيبتي قمر', و' هذا الرجل أسد' والدين يتوسل بهذه اللغة أيضا, لأنه يتحدث عن غيبيات تعز علي اللغة المباشرة. خذ مثلا تعبير' حبل الله', ليس هناك حبل, بل هو صورة رمزية تجسد الدلالة العامة كما تجسدها كلمة قمر لوصف الجمال. ومن هنا نشأ الخلاف.. من يسيطر علي الأرض التي يقف كلاهما عليها. الدين يريد أن يوظف الفن لصالحه, والفن يريد أن يظل مخلصا لنفسه, وفي هذه الحالة يرفض الفقهاء الحرفيون الشعر, وتحطم الأيقونات في المسيحية, لأنها خرجت عن طوع الدين واستقلت بنفسها. هذه هي المشكلة. القداسة والجمال متجاوران, لكن رجال الدين باعدوا بينهما, لأنهم يريدون إخضاع الجمال للقداسة. * هذا يأخذني إلي سؤال عن حرية الشاعر..أين تقف؟ - لو أنك تريد إجابة أكون فيها متهما سأقول لك: إن حرية الشاعر لا تقف عند حد, لأن الضرر الذي قد يلحق بالشعر من عدم وجود سقف للحرية ضرر محتمل, وأخف من الضرر الناتج مع وجود السقف. ما الذي يحدث لو تركنا الحبل علي الغارب للشاعر؟ ماذا لو تركنا الشاعر يخترق' التابو', هل يكتب شعرا رديئا, دعه يكتب, لأن هذا كفيل بسقوطه من تلقاء نفسه. أما إذا كتب شعرا جميلا, مثلما فعل أبو نواس, فسنكسب شاعرا جميلا آخر. لا ينبغي أن نخاف من الخروج علي ما ألفناه من قيم. هذا الخروج, إذا كان منسوجا من خيوط الفن الجميل, سوف تتلاشي خطورته. قراءة أبي نواس لن تدفعك للذهاب إلي الحانة إذا لم تكن تريد ذلك. امنحوا الشاعر, كل الحرية, دون خوف.