قارتنا السمراء ملأى بالكنوز على جميع أشكالها وأصنافها. كنوز مادية كالمعادن والمياه والمحاصيل النباتية والثروة الحيوانية والسمكية وغير ذلك. وأيضا كنوز ثقافية، نجهلها وسوف يشهد العالم - عندما يحين الوقت - الكنوز الثقافية المجهولة من فنون مختلفة وموسيقى وآداب. وحديثنا هنا عن الموسيقى والغناء الأفريقي، لا أقصد العزف على الطبول الفن الأفريقي الأشهر لكنه الغناء الأفريقي، وإحدى أهم رواده وهي «بي كيدودي» المطربة التنزانية الراحلة، أو أم كلثوم أفريقيا. تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لمطربة عجوز سمراء تغني باللغة السواحيلية الأفريقية، وليس هذا فقط بل كانت بعض هذه المقاطع بالتخت الشرقي والمقامات الشرقية وأغاني لأم كلثوم وعبد الوهاب بصوتها. إنها المطربة التنزانية «بي كيدودي» التي رحلت عن دنيانا عام 2013 عن مائة وثلاثة أعوام. اسمها الأصلي «فاطمة بنت بركة الخميسي»، وهي مسلمة، ولدت حوالي 1910 وتوفيت في أبريل عام 2013 وكانت جنازتها مهيبة وضمت ملايين المعجبين، وتقدمها الرئيس التنزاني وبعض الشخصيات من أنحاء العالم. لقبت بي كيدودي بملكة الطرب وموسيقى «الأونياغو»، وهي ليست مطربة فقط بل كانت عازفة طبول ماهرة لا تقل عن مهارتها في الغناء، حيث تأثر الزنجباريين بالثقافة العربية. ومن أقوالها: «إن الطرب بالنسبة لي كإلقاء الروح في السماء»، وحصلت على جوائز عالمية منها جائزة «ووميكس العالمية» سنة 2005، ووسام الفنون والرياضة التنزاني عام 2012. كان والدها بائع جوز هند في زنجبار أثناء الاحتلال البريطاني ، وتأثرت وقتها بالمطربة الزنجبارية «ستي بنت سعد». واشتهرت بأداء الطرب العربي، ولها مقاطع لبعض التواشيح والأغاني العربية للسيدة أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. وكانت أسطورة الطرب بلا منازع في شرق أفريقيا. وقد جاءت إلى مصر سنة 2012 في مهرجان الربيع بقصر الأمير طاز. وتتميز بخفة الروح والفكاهة، ولها معجبين من جميع أنحاء العالم حيث أن ألبوماتها تباع بمئات الآلاف في أفريقيا والعالم. وعندما سئلت بي كيدودي عن كيفية تعلمها الغناء والعزف على الطبول قالت إنها تعلمته بنفسها وتطورت موهبتها مع تقدم العمر لأنها تغني من قلبها وليس من نوتة موسيقية أو على حد قولها: «لا أغني من ورقة.. أنا أغني من قلبي». وفي حوار معها لإحدى القنوات العالمية سألها المذيع: «هل تسمعي الموسيقى الغربية والأوربية؟»، فأجابته بكل فخر وكبرياء: «أنا التي أحضر الموسيقى معي، وليس لهم إلا أن يجلسوا وينصتوا لموسيقاي، فأنا أعزف على الطبول وأغني الأغاني السواحيلية والتواشيح الشرقية». واعتادت هذه المطربة الأسطورة أن تمشي حافية القدمين، وعندما ذهبت لتحيي الحفلات في العالم كله أيضا كانت حافية القدمين، وعندما استفسر الناس عن سبب هذه العادة قالت بخفة وفكاهة: «إنها مفيدة لقدمي». لها أعمال جليلة مثل تبرعات ورعاية الأيتام، وحفر الآبار في المناطق القاحلة والفقيرة في زنجبار، واشتهرت أيضا بمعالجة الربو ومنزلها دائما مليء بالمعجبين. وغنت في أرقى المسارح في باريس وحصدت الكثير من الشهادات العالمية وسفيرة الغناء في أفريقيا. عند وفاتها قبل حوالي أربع سنوات وصفتها قناة «بي بي سي» بأسطورة الغناء في زنجبار. إن هذه المطربة الأسطورية أكبر دليل على أن الثقافة المصرية وصلت إلى قلب أفريقيا ليس بالاحتلال ولا بالسياسة ولا بالاقتصاد ولكن بالفن والموسيقى؛عندما كانت مصر - وستبقى رغم كل الظروف - تصدر ثقافة إلي أفريقيا، ليبقى الفن الأصيل في أي وطن يرعاه. وفي آخر حوار لها قالت: «إن لساني أي غنائي وبداية غنائي هو بداية عمري». رحم الله صوت أفريقيا العريق المطربة «فاطمة بنت بركة» الشهيرة ب «بي كيدودي».