تجاوز عمرها المائة سنة بثلاث عشرة سنة، قضت منها قرنا كاملا وهى تغني، لكنها كانت تشعر دائما أنها طفلة، لذا سموها االجدة الصغيرةب. لم تكن تعرف تاريخ ميلادها على وجه الدقة، لكنها تتذكر جيدا أنها بدأت الغناء فى طفولتها, وكذلك تتذكر أن الناس كانوا يتعاملون بالروبية الهندية التى كانت عملة «جزيرة زنزبار» الرسمية إلى الحرب العالمية الأولى. تقول عن نفسها فى فيلم تسجيلى ل «آندى جونز 2006» عنوانه «عُمرى من عمر لساني» «As old as my tongue » «أسطورة وحياة بى كيدودى» إنها ابدأت الغناء وهى وهى فى العاشرة من عمرها, وتأثرت ب «ستى بنت سعد»، أول مطربة غنَّت باللغة السواحلية. وكلمة «طرب» فى اللغة السواحلية تعنى الغناء. وتبعتها «بى كيدودى» بأداء أغانى الطرب السواحلى المشبعة بروح الغناء العربي، وربما هذا ما سهَّل عليها ترديد بعض أغانى سيدة الغناء العربى «أم كلثوم»، وأغنية الموسيقار «محمد عبد الوهاب»، و«أحمد شوقى» : اسهرت منه الليالى.. مال الغرام ومالى .. إن صدَّ عنى حبيبى .. فلست عنه بسالي»، وجدتنى رغما عنى أتمايل طرباً، مع صوتها الدافئ العذب، وهو يرجع بى إلى سنوات قضيتها فى جزيرة زنزبار الساحرة التابعة لتنزانيا، غير مصدق أن يخرج مثل هذا النغم الرائق من حنجرة تجاوزت المائة. وكان الطرب المصرى قد انتقل إلى جزيرة زنزبار على يد فرقة مصرية ذهبت لإحياء حفل فى قصر السلطان العُمانى «برغش» عام 1870. ولاقى الغناء هويً فى نفوس الزنزباريين، فبعث السلطان بعض الهواة إلى مصر ليتعلموا الموسيقى والغناء، ورجعوا من مصر ومعهم الأدوات الموسيقية التى تعلموا العزف عليها، ومازالت تستخدم هناك إلى الآن, وهى العود والقانون والناى والأوكورديون والكمان والطبلة. أما ابى كيدوديب أو «الجدة الصغيرة» كما يدللونها فى تنزانيا وزنزبار، أسطورة الطرب بلا منازع فى شرق إفريقيا، فقد جاءت إلى القاهرة مع فرقة «تاووسى» (طاووس) النسائية لتغنى وتقرع الطبول، فى مهرجان الربيع بقصر الأمير طاز فى 28 أبريل 2012، وهذه الفرقة النسائية تلقت دعوات للغناء من الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وغنت عدة مرات فى «مهرجان زنزبار» السينمائى الدولي, ومهرجان «باجا مويو» الثقافى وعملت مع فرق موسيقية عديدة، خاصة فرقة نادى الموسيقى الثقافي، حتى أصبحت لاحقا «ملكة الطرب وموسيقى الأونياغو». والغناء التقليدى فى أفراح زنزبار يكون باصطفاف المدعوين، حيث يتماوجون بنعومة على إيقاع هادئ, ويلوحون بأياديهم بأوراق مالية صغيرة, قبل أن يضعوها تحت أقدام من يطربهم.ِ والأسطورة ابى كيدوديب التى توفيت قبل عامين، اسمها الحقيقى افطومة بنت بركة«، وضربت بعرض الحائط كل أوهام الناس عن العمر، حيث بدت فى الفيلم الوثائقى تقرع الطبل بقوة وسرعة، وتغني، وترقص بطاقة وحماس فتاة صغيرة, وفى مشهد آخر تؤجج حماس الراقصات من النساء من أهل وصديقات العروس، ومن حبها فى الغناء قالت عنه : «كإلقاء الروح فى السماء». وشهدت سنواتها الأخيرة إقبالا كبيرا عليها من مواطنى تنزانيا وزنزبار، لإحياء حفلات «ليلة الحناء»، لأنهم كانوا يطربون لأدائها، وكانت تتمتع بخفة الظل والقدرة على الارتجال، وكانت تصيغ النصائح للعروس فى أغانٍ محببة. كما كانت تستحضر بصوتها القوى الشجى روح التراث الشعب، الذى توارثته الأجيال, وتضيف إليه من روحها، وصوتها عذوبة إضافية، واشتهرت لها أغنية طريفة تُوبخ فيها الرجال لسوء معاملاتهم النساء, وعدم إخلاصهم لهن. وكانت ألبوماتها تبيع بمئات الآلاف فى البلاد الإفريقية، والشرق الأوسط, واليابان, وأوروبا. وكُرِّمت فى أكثر من مناسبة, مثل مهرجان زنزبار السينمائى العالمى 1999, وفازت فى 2005 بجائزة «ووميكس» العالمية،، وجاء فى حيثياتها: «لإسهاماتها وإنجازها الفريد فى عالم الموسيقى والطرب خلال حياتها المديدة, فهى لم تحافظ فقط على روح التراث، بل أيضا أثرته بإضافاتها المواكبة للتغير فى البيئة من حولها»، وفى 2012 حازت ووسام الفنون التنزاني. وعرف عنها أيضا عطفها وسخاؤها, وقيل إنها كانت تنفق الآلاف على المحتاجين بكرم دائم، كما كانت تتبنى المواهب الموسيقية الشابة, وتُعلّمهم الموسيقى والطرب على نفقتها الخاصة، واشتهرت أيضا بمعالجة الأزمات الربوية بالأعشاب، وكانت طوابير المرضى أمام بيتها دائما. رحم الله «بى كيدودى» التى تُوفيت فى 2013، العام التالى لزيارتها مصر، وفى شهر أبريل نفسه. وتوفيت «بنت بركة» 17 أبريل 2013 ، وشارك رئيس تنزانيا والآلاف فى مراسم تشييع جنازتها، وقدّم الرئيس اجاكايا كيكويتيب تعازيه فى رحيلها، ودفنت فى قرية «كيتومبا».وفى أثناء الجنازة، وبكى عليها كثيرون لأنها كانت والدة و جدّة للجميع. حين رأيتها وسمعتها فى ساحة الحصن البرتغالى المُطل على المحيط الهندى فى جزيرة زنزبار كان يشع منها جمالا خاصاً، وطاقة حب رائعة، وكانت فى المائة من عمرها، وأحببتها أكثر حين سمعتها تشدو لعبد الوهاب فى مصر، وسيظل صدى صوتها يتردد فى وجدانى دائما.