«هل هذه حركة مسرحية لإخفاء غياب الحجة أم أنك تشعر بالأمان أكثر بالاختباء وراء قمة ال7 الصناعية؟: استمع (يا بوريس جونسون) إلى رد القوة الناعمة الروسية؟». كان هذا رد السفارة الروسية في لندن على قرار وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون إلغاء زيارة إلى موسكو. كان الرد الروسي على «تويتر» مصحوبا بجزء من مقطوعة موسيقية لتشيكوفسكي ألفها عام 1812 بمناسبة هزيمة جيوش نابليون أمام الروس واضطراره للعودة بطريقة مهينة وكارثية إلى فرنسا. بكل المعايير كان هذا أسوأ أسبوع لبوريس جونسون منذ عينته رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي وزيرا للخارجية في يوليو الماضي. لم يكن يفترض أن يكون أسوأ أسبوع، بل على العكس كان المفترض أن يكون الأسبوع الذي يفرض فيه جونسون نفسه على المسرح الدولي عندما حانت الفرصة ممثلة في التصعيد الدولي الحالي حول سوريا. اتجهت الأنظار لمعرفة كيف يمكن أن يستغل جونسون اللحظة للكشف عن قدراته الدبلوماسية وكانت النتيجة الفشل الذريع. فقد بدأ الأسبوع بدعم بريطانيا غير المشروط للقصف الجوي الأمريكي على سوريا، الذي وصفه جونسون بإنه «يغير قواعد اللعبة» وأنه «يقدم فرصة كبيرة» للضغط على روسيا، بدعوى أن الدلائل على تورط القوات السورية في الهجوم الكيماوى على مدينة خان شيخون في إدلب «قاطعة تماما»، تحولت لاحقا إلى «أدلة مرجحة»، دون أن تقدم لندن أو واشنطن أدلة. ثم أكمل جونسون أسبوعه بإلغاء زيارة لموسكو، كانت ستكون الأولي لوزير خارجية بريطاني لروسيا منذ اكثر من خمس سنوات، لإجراء مباحثات مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف حول الأزمة السورية وقضايا اخرى وأيضا لترطيب الأجواء بين موسكوولندن على خلفية اتهامات جونسون لموسكو بإرتكاب جرائم حرب في سوريا. الترتيب لزيارة جونسون لموسكو قامت بها شخصيا تيريزا ماي خلال قمة العشرين في الصين في سبتمبر الماضي عندما التقت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبحث العلاقات الثنائية والأزمة السورية. فتيريزا ماي، برغم حجم الخلافات، تريد ان تظل قنوات التواصل مفتوحة مع روسيا. كانت زيارة جونسون المزمعة إحدي خطوات فتح القنوات المغلقة، لكن إلغاءها المباغت جعل العلاقات بين لندنوموسكو أسوأ حتى مما كانت عليه. وإذا كان إلغاء الزيارة أثار استياء بالغا لدى الروس، فإن ملابسات الإلغاء اثارت غضبا داخليا في بريطانيا وانتقادات غير مسبوقة لجونسون بوصفه «توني بلير الجديد»، من حيث التبعية لواشنطن. فقد حدث الإلغاء بعد مباحثات هاتفية بين جونسون ووزير الخارجية الامريكي ريك تيلرسون، اتفقا خلالها على أن يؤجل جونسون زيارته ويترك لتيلرسون مهمة المحادثات في موسكو ل»إيصال موقف موحد»، في رسالة ضمنية مفادها «hبق أنت في البيت يا بوريس. سأذهب أنا إلى موسكو لأتحدث بالنيابة عن واشنطن وعن لندن». الشعور بالخجل والضيق من إلغاء زيارة مقررة منذ أشهر بعد إتصال هاتفي مع وزير الخارجية الامريكي كان واضحا. فقد اتهم سياسيون بريطانيون امريكا من ناحية بالسعي لتهميش دور بريطاني مستقل في منعطف حساس من الازمة السورية، كما اتهموا جونسون من ناحية أخرى بانه يسمح لواشنطن بأن تعدل جدول أعماله. فزعيم «حزب الأحرار الديمقراطييين» تيم فارون قال بسخرية: «جونسون كشف أن جدول مواعيده يدار من الناحية الأخرى من الأطلسي». أما وسائل الإعلام البريطانية فقد اتهمت جونسون بإنه يعمل مساعدا لتيلرسون ويسير خلف السياسة الخارجية الأمريكية بشكل مهين لبريطانيا. ووسط الاتهامات من كل جانب، دافع جونسون عن إلغاء الزيارة لموسكو، قائلا إنه فضل البقاء في أوروبا من أجل توحيد موقف الدول السبع الصناعية خلال اجتماعهم في ايطاليا فيما يتعلق بفرض عقوبات جديدة على شخصيات روسية وسورية عقب الهجوم الكيماوي. وقالت مصادر مطلعة قبل قمة السبعة إن جونسون «على الهاتف طوال الوقت من أجل ضمان موقف موحد فيما يتعلق بالعقوبات». لكن هذا أيضا فشل فيه. فالبيان المشترك لقمة السبعة لم يذكر العقوبات بسبب الخلافات الحادة حول جدواها. فوزير الخارجية الايطالي انجيلينو الفانو رفض التهديد بفرض عقوبات على روسيا، محذرا من حصار موسكو في زاوية قائلا:»يجب أن يكون هناك حوار ويجب ألا نحاصر روسيا في زاوية. ليس هناك توافق على فرض عقوبات جديدة». أما ألمانيا فرفضت فكرة العقوبات دون تحقيق دولي مستقل حول الهجوم على خان شيخون يثبت فعلا تورط حكومة الأسد في القيام به، قائلة «لا عقوبات... دون تحقيق دولي». وذلك وسط شكوك في الجهة التي قامت بالهجوم. فالهجوم لا يخدم الحكومة السورية بل على العكس يضرها بشكل بالغ. الضعف الذي أظهره بوريس جونسون خلال الأسبوع ليس مجرد «أسبوع سيئ سيمر». فالمعضلة أنه ليس لدي بريطانيا ومن ورائها امريكا سياسة واضحة حيال الأزمة السورية. فهناك الموقف ونقيضه طوال الوقت. ففي مطلع العام الحالى قال جونسون أمام مجلس اللوردات في البرلمان البريطاني إن الدعوات لمغادرة الرئيس السوري بشار الأسد لم تنجح وعطلت التوصل لأي تسوية وتركت الفضاء العسكري مفتوحا كي تملأه روسيا، قائلا إنه يجب ان يسمح للأسد بالمشاركة في الانتخابات المقبلة في اطار حل سياسي لإنهاء الحرب وترك مصيره للشعب السوري. لكن لا يقول جونسون إن على الأسد أن يرحل وأنه لا مكان له في مستقبل سوريا، وهو موقف مماثل تماما لموقف الرئيس الامريكي دونالد ترامب، الذي كان يرفض خلال الحملة الانتخابية مبدأ تغيير الأنظمة والتدخل في سوريا إلا لإستهداف داعش، والذي تغيرت مواقفه من بقاء الأسد بشكل لافت وغير متسق الآن. فحاليا لا يعتقد ترامب أن بإمكان الأسد البقاء في اطار أى حل في سوريا، رغم انه كان يدافع عن بقائه منذ اندلعت الأزمة السورية وحتي نهاية مارس الماضي وذلك لعدم تكرار ما حدث في العراق وليبيا عندما تم التخلص من النظام بدون أن يكون هناك بديل مشروع ومتوافق عليه ما أدي إلى انهيار الدولة المركزية في هذين البلدين واندلاع صراع لم يتوقف حتي اليوم. هناك الكثير من الأسباب والدوافع وراء التصعيد الأمريكي الحالي حيال روسياوسوريا، بعضها داخلي مرتبط بالصراع بين أجنحة متعارضة داخل البيت الابيض (جناح ستيف بانون الذي لا يريد التدخل الخارجي، وجناح جارد كوشنير الذي يريد التدخل)، وبعضها مرتبط بان ترامب ربما يريد التغطية على اخفاقاته الداخلية (فشل مشروعه لتغيير اوباما كير مثلا)، وبعضها مرتبط بالتشويش على التحقيقات الجارية في الكونجرس حول طبيعة العلاقة بين الحكومة الروسية وترامب وفريقه قبل انتخابه رئيسا لامريكا. لكن هذه الدوافع الامريكية المعقدة والمركبة تربك القرار في لندن. فقد دعمت بريطانيا الضربة العسكرية الامريكية على سوريا، وواشنطن نفسها لم تغلق الباب أمام تكرار ضربات مماثلة. لكن الضربات الجوية ليست استراتيجية عسكرية أو سياسية. فليس لدي امريكا استراتيجية واضحة في سوريا وهي تجرب كل الأوراق في وقت واحد على أمل أن يحقق أي من هذه الأوراق أي نتيجة ايجابية. لكن هذا النهج ليس استراييجية، بل فوضي تكشف ضعف خيارات واشنطن. ولندن ممثلة في جونسون بإنجرارها وراء واشنطن تضر بقدرة البلدين على لعب أي دور له مغزى. فوزير الخارجية البريطاني الأسبق السير مالكوم ريفكيند أعرب عن شكوكه مثلا في جدوي فكرة العقوبات على روسيا، قائلا ان «تحمس جونسون المبالغ فيه للفكرة أدي عمليا إلى تقويض احتمالات موقف موحد لقمة السبعة وكشف الخلافات والانقسامات في الغرب»، وهو ما صب عمليا في صالح روسيا وأضعف موقف تيلرسون خلال مباحثاته في موسكو مع لافروف. أما السفير البريطاني الأسبق لدي سوريا بيتر فورد فقال إن إستراتيجية لندنوواشنطن حيال روسيا وهي «تخلوا عن الأسد وانضموا لنادي الكبار» تعكس عدم فهم وتبسيطا مخلا للأزمة السورية ولموقف ودور روسيا منها. فلا أحد في الغرب يعرف ما الذي سيحدث إذا ما سمحت روسيا بإنهيار حكومة الأسد، وهل سيكون هذا بداية حرب أهلية وتفكيك لسوريا ولجوء ملايين السوريين إلى أوروبا كما حدث للعراقيين؟. فأوروبا بعدما استطاعت بصعوبة بالغة لجم موجات اللاجئين اليها بعد عامين عاصفين لا تريد أن تؤدي سياسات غير مدروسة إلى دفع ملايين السوريين للهروب ومحاولة اللجوء إلى أوروبا. فأي سياسات أمريكية عشوائية تقود لأزمة لاجئين جديدة، لن تدفع واشنطن ثمنها فهي في الناحية الاخرى من الأطلسي. كما لن تدفع لندن ثمنها، فهي خارج منطقة تشينجن. ولهذا تقف اوروبا متأهبة لرفض أي قرارات امريكية -بريطانية قد تؤدي إلى أزمة إنسانية تجبر الملايين على الفرار من سوريا. عندما عينت تيريزا ماي بوريس جونسون وزيرا للخارجية لم يستطع الكثيرون إخفاء صدمتهم من القرار، فهو شخصية متقلبة ومثيرة للجدل في الداخل البريطاني، وغير محتملة على المستوى الأوروبي بسبب دوره في خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. لكن البعض كانت صدمته أقل. فقد رأوا أن التعيين هو ببساطة ضربة ماكرة من رئيسة الوزراء للقضاء على أي أمال لجونسون في منافستها لاحقا. وإذا كانت خطة ماي من تعيين جونسون هي كشف قدراته الضعيفة على المسرح الدولي كي لا يشكل لها تهديدا على زعامة حزب المحافظين أو رئاسة الحكومة خلال الأمواج العاتية لسنوات ما بعد الخروج البريطانى. فقد نجحت تماما في هذا.