طلى على الأحباب طلي يا لايقة فى الطرحة التُلِّي هل بلغك أنين الأوعية «الخوصية» وهى ملقاة على الأرصفة فى ميدان السبع سواقى بالفيوم، تعانى الإهمال واللامبالاة، دون أن تمتد إليها يد تؤمن بقيمتها ونجاعتها الصحية، اللهم إلا أيادى زائرى المدينة الذين حرصوا على العودة بتذكار من هذه الرحلة السريعة!؟ . هل طالعت تلال قش الأرز وهى تحرق كل عام لتعبئ صدر مصر بأدخنة سامة وخانقة تزداد معها حالات الإصابة ب«الربو» كل عام، دون أن يُستفاد منها فى تشكيل هياكل المشغولات «الخوصية»، كبديل اقتصادى منخفض التكاليف، لعراجين النخيل التى باتت نادرة ندرة النخيل، بعد أن اقتلعته «اللوادر» لتنشئ مكانه عمائر أسمنتية شائهة وقرى سياحية دأبت على تسليع «الفولكلور».. هل استوقفك نبات السمار مهملا على شواطئ النيل، بانتظار (حُصري) يجدل منه فُرشاً تقيم مع الجسد حوارا متناغما. هل استرعتك أكوام قصاقيص القماش وهى تلقى كمخلفات دون أن يصنع منها بسط وسجاجيد، تترفق بالأجساد المنهكة وتزيح عنها تعبها لينفسح المجال واسعا أمام منتجات «البلاستيك» ومشتقات البترول لتحكم خناقها على الروح. وهل اشتقت إلى الآنية الفخارية التى لم يعد لها وجود سوى فى الأعمال التشكيلية التى تحاول استلهام آخر مشاهد الحياة التقليدية لتنصبها شواهد حية على تخلى الروح عن جسدها. فكلما طوّحت بعينيك وقعت على بديل «بلاستيكى» لمنتج تقليدى انسحبت صورته من الحياة وتوارت بعيدا عن العيون، وانزوت فى ركن قصي، لتعزف وحدها نغمة لا تنتمى لهذا العالم وإنما تحاول تثبيت مشهد قديم كان الإنسان فيه لا يفعل إلا مايتواءم مع روحه وطاقاته النفسية، ولا ينتج إلا مما تمنحه البيئة له من ثمار طبيعية سخرها الله له، حيث كان المرء ينظر فى منتجات الطبيعة من حوله ويصنع منها حاجياته. هكذا يقابلك الخواء.. من ورش تصنيع النسيج الطبيعى فى أخميم، إلى ورش السجاد اليدوى فى طحلة، إلى صناعة الحصير فى كفر الشرفا، إلى الفخاخير بجوار جامع عمرو، فصناعات الخوص فى الفيوم والجريد فى أمياى بالقليوبية، إلخ... وليست فقط مزاحمة التكنولوجيا وسيطرتها على مقاليد الحياة؛ هى سبب هذا الخواء أو العامل الأوحد فى تردى أوضاع الحرف التقليدية، وأربابها، إنما مجموعة من العوامل عملت جنبا إلى جنب، وتنافست من أجل رسم ملامح مشهد السقوط الذى استقر عليه واقع الحرف التقليدية الآن. ففيما تتراجع الجماعة الشعبية عن استخدام منتجها الأصيل، وتغير أنماط الثقافة التى أوجبت تغيرا مماثلا فى أنماط الاستهلاك، وافتقاد الحرف التقليدية لمجموعة من الركائز العلمية التى يمكن أن تنهض عليها وتطورها، إضافة إلى افتقاد المقومات الاجتماعية الأساسية، مثل غياب مظلة تأمينية واضحة وعادلة يندرج تحتها الصناع التقليديون، وخلل النظام الضريبى فى التعامل مع الحرفيين التقيديين، وافتقادهم أبسط حقوق الإنسان فى علاج صحى له ولأسرته بما يتناسب مع دخله. وبين هذا وذاك ارتفع سعر المنتج التقليدى وهجر الصناع حرفهم بحثا عن وظائف حكومية تضمن لهم وذويهم حياة كريمة، مما أثر على عدم تقديم جيل جديد من الصبيان والأسطوات الذين يمكن أن يحافظوا على بقاء الحرفة ونمائها وتجدد حضورها، بدلا من أن يصبح وجود الحرفى التقليدى استثناء. لقد بات المشهد محصورا داخل شبكة معقدة من العوامل التى أدت فى النهاية إلى ارتفاع أسعار المنتجات التقليدية، ومن ثمَّ باتت تنتج لا بغرض استخدام الجماعة الشعبية لها، - وهو أحد أهم الشروط لمنحها صفة الشعبية- وإنما بغرض تسويقها سياحيا، بما جعلها تنصاع لشروط ومواصفات سوقها، فراحت تفقد تدريجيا سماتها الأصيلة، حتى لم تعد معبرة عن رؤية وطبيعة الجماعة الشعبية، بقدر محاولتها لاستيفاء شروط السوق السياحية.