فى مشروعه المسرحى المعروف باسم «مسرح الجرن»،الذى تتبنّى عروضه الهيئة العامة لقصورالثقافة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، يُقدِّمُ المخرج أحمد إسماعيل تجربة فنية لافتة، تسعى إلى إيجاد علاقة حيّة بين الممثل والجمهور، متجاوزة حدَّ التعليم أو التنوير، إلى موقف راديكالى من المواضعات السائدة. ينطلق المخرج أحمد إسماعيل فى دراسته المعنونة باسم «رؤية للتنمية الثقافية فى الريف المصري- مشروع مسرح الجرن نموذجًا» من مفهوم للتنمية الثقافية يَعُدُّها «عملية منهجية متكاملة تقوم على الإمكانات الأصيلة فى الأفراد والجماعات والواقع؛لتنمية القدرة العقلية والوجدانية إبداعيًّا وفكريًّا ونقديًّا،ولتجسيد وتمثّلِ حُزمة من القيم والأهداف»، مُضيفًا: «لعل أهمَّها؛ تعزيز الانتماء للوطن وللعروبة وللإنسانية، وتنمية الإبداع العام، وتكريس أهمية العمل الجماعى وتطوير آلياته، وإعلاء قيمة التسامح، واحترام الرأى الآخر، ودحض وهم امتلاك الحقيقة المطلقة»، مُشدِّدًا على دورها فى «تجفيف منابع الفكر المتطرف الذى ينطلق من الإرهاب بأشكاله المعنوية والمادية كافة». وبذلك يُثمِّنُ مخرجنا القدير قيمة الانتماء إلى عالمٍ غنيٍّ بعلاقاته الاجتماعية، وبصلاته الجيلية؛ بما يُتيح للأفراد فرص تطوير ذواتهم وهُوياتهم والتعبير عنها بحرية، والتعايش مع الثقافات الأخرى بودٍّ وتسامح، ومَوْقعَةِ روابطه الإنسانية فى إطار الشخصية التاريخية للإنسان المعاصر من دون إكراه ولا قسر. وهنا يَلفت أحمد إسماعيل نظرنا إلى وضعية الريف المصرى «المُمثّلة لأكثر من نصف السكان، وقيمه الغالبة على النصف الثاني،وخلوه من أى نشاط ثقافي،باستثناء بعض الهياكل الفارغة المحتوى النادرة العدد كبيوت الثقافة»،مؤكِّدًا أن «هذا الريف أكثر احتياجًا لهذه التنمية». الأمر الذى يتعين معه أنْ يمتلك جميع الأفراد دولتهم،وأن يتمتعوا بنصيبهم من الموارد والدعم الحكومي،ويُوجِبُ على وسائل الإعلام إبراز التركيبة الثقافية التعددية للمجتمع الأشمل؛بحيث نطّلع على مصادرها،وندخل معها فى حوار نقدى يُضيء مواقفها المختلفة،من خلال نظرية أعمق وأغنى للحرية؛بما يُوفِّر الأرضية الآمنة والضرورية لتطوير قدرة المجتمع على الاختيار.لهذا رأى بحقٍّ أن «الريف المصرى يُمثّل التحدى الأكبر فى إقامة نهضة شاملة؛لما يتعرض له من إشكاليات حادّة بين القديم والحديث الوافد»فى عدم الاتساق «فى معظم مناحى الحياة؛بدءًا من الأفكار والقيم،مرورًا بأنماط الإنتاج ووسائله،وانتهاء بالمنتجات المتداولة فى الحياة اليومية،والتى هي-فى معظمها-إنتاج خارجي»،مُنبِّهًا إلى أن الريف « يشهد- فى إطار المجتمع- أكبر عملية استلاب للعقل، وغياب للتخطيط، وإهدار للموارد البشرية والطبيعية». ويُحيلنا أحمد إسماعيل إلى قضية إخفاق المشروع التحديثى الوطنى فى حل المسألة الزراعية، وعجز سياساته الاقتصادية- الاجتماعية عن حل الجزء الأكبر من حياة سكان الريف ونشاطاتهم وعلاقاتهم. ومن ثَمَّ؛نشأت فجوة عميقة بين عوالم منفصلة للنخب الأكثر حداثة وللجماهير المنحدرة من ثقافة ريفية؛ أفضت إلى انقسامات وتوترات اجتماعية-اقتصادية -سيكولوجية بدتْ مصادرَ للاضطراب وعوائقَ فى وجه بناء فعّال للأمة. وبذلك أدرك مخرجنا الكبير «أهمية النشاطات الثقافية والأدبية والفنية والفكرية،ودورها فى معالجة هذه الدوافع/المنابع لظاهرة العنف والإرهاب،والحدّ منها إنْ لم تُجفّفْها»، وأن هناك «تفاعلًا ضروريًّا بين الثقافة الشعبية وثقافة النخبة»؛ بحسبانه أساسًا منهجيًّا لتحقيق الرؤية التى تستند إليها التنمية الثقافية المنشودة،كما يتجلى ذلك فى «مشروع مسرح الجرن للتنمية الثقافية..وبناء المسارح المكشوفة». وعلى هذا النحو، عملَ المخرج أحمد إسماعيل عبر محاور مشروعه الثلاثة فى خمس قري(2007-2008،2009-2010،مع تلاميذ المرحلة الإعدادية)، ثم(مع الكبار فى هذه القرى ذاتها، وإن كان مؤجلًا إلى حين بناء المسارح المفتوحة التى تُمثّل المحور الثالث) عملَ على تعزيز الطموح إلى تأسيس نهضة شاملة تُغطّى قرانا المصرية الألف على امتداد وطننا بحيزه الجغرافى المترامى الأطراف؛بحيث يُمسى «كلٌّ منها مركزًا للتنوير فى مجالات الآداب والفنون» على حدِّ تعبيره فى الكتاب التوثيقى الذى أصدرته «الهيئة العامة لقصور الثقافة» بعنوان «مسرح الجرن - حصاد المرحلة الثانية - 2010 2009 من إعداد وتحرير:عماد مطاوع،الذى يُزيح فيه النقاب عن «مستوى تفعيل كل نشاط من الأنشطة السبعة المتوخاة(القصة-الشعر-جمْع حكايات القرية-الألعاب الشعبية-الأغانى الشعبية-الفنون التشكيلية-التجربة المسرحية)،ونوع الإشكاليات التربوية والثقافية والنوعية،وكيفية التطوير فى المرحلة التالية». وجرت الاستعانة «بأدباء وفنانى كل محافظة بالتعاون مع مدرسى المدارس الإعدادية،فى حصة نشاط متاحة لجميع تلاميذ المدرسة، فى الفترة الزمنية الممتدة للفسحة(ساعة فى اليوم)،ولمدة ست عشرة ساعة لكل نشاط،وبمنهاج يقوم على تنمية الإبداع وتعزيز الانتماء؛ لتحقيق البهجة وإنماء الحوار واحترام الرأى الآخر، غير أن كلَّ نشاطٍ من أنشطة التنمية الثقافية لمسرح الجرن،لم يُترك للصدفة العمياء تقوده أنَّى شاءت،بل خضع لإشراف مركزى من قِبل «أديب كبير أو فنان متميز فى مجال التخصص، وفى كل المواقع مجموعة من كبار مخرجى الهيئة العامة لقصور الثقافة والمسرح المصري». ولا شكَّ أن هذه التجربة تُعَدُّ امتدادًا لتجربة المخرج أحمد إسماعيل المسرحية السابقة فى «شبرا بخوم» عام 1973وتطويرًا لها، واضعًا نصب عينيْه «الثقافة الشعبية أساسًا ومنطلقًا،مع الاستفادة من الثقافة الرسمية/ثقافة النخبة عالمية الطابَع والماهية» حسب ما يذهب إليه؛نشدانًا «لمساحات أوسع من التفاعل الثقافى بين عموم الناس الذين يروْن أنفسهم وذواتهم وحيواتهم فى هذه الثقافة؛وحتى تقوم الثقافة فى هذه الحالة بدورها المنوط بها» على حدِّ تعبيره.بَيْدَ أنه أضاف إليها خطتيْن وتصوريْن جديديْن؛يتعلق أولهما «ببناء مسارح مفتوحة فى القرى الأم،وفق مدرسة العمارة البيئية للمهندس المصرى العالمى حسن فتحي،مستوحاة من العمارة المحلية..البسيطة وقليلة التكلفة،ولكنها مهمة لإتاحة مُشاهَدةٍ جيدةٍ للعروض والاحتفالات بما تتسم به من زاوية الرؤية والاستماع التى تُوفّرها مدرجات الجمهور»؛ والآخر يتصل «بتنشيط إبداعات القرية للفئات العمرية الأكبر سنّا»، مؤمنًا بأن فى كل جيل يكتشف العالم طريقة جديدة لرواية الحكاية،كما تكتسب الحكاية معنى ومضمونًا مغايريْن يتناغمان وتطورَ العصر تاريخيًّا.غيرأنه أفاد فى تجربته المسرحية هذه من دروس عديدة فى تاريخ المسرح العالمي؛أولها درس المخرج الروسى العظيم «كونستانتين ستانسلافسكي» و «مسرح الفن» الذى أنشأه، وإشارته إلى أن المخرج الذى يُريد لمسرحه أن يضطلع «برسالة ثقافية» (لابدَّ من أن تتوفَّر له معرفة متخصصة ودقيقة ومن مصادرها الأولى بكل عناصر المسرح من وجهات نظر الممثلين والمخرج والمنتج والإداري).كما أنصتَ إلى درس المسرح الملحمى عند «بيسكاتور» و«بريخت»، وتعرَّف إلى دوره فى التعليم والتنوير،وأن المسرح لا يحفِلُ بالجمالى فحسب،بل يُزاوج بالجانب الجمالى بالسياسي..والثقافى بالاجتماعي؛بوصفه قوة دافعة إلى التغيير والتقدّم،أو بتعبير بريخت «إن هدف الدراما هو أن تُعلّمَنا كيف نناضل ونظلَّ على قيد الحياة».كما وعى ما هدفَ إليه «بيتر بروك» من حديثه عن «مسرح المواجهة»فى تقديمه لمسرحيته»نحن-والولايات المتحدة قائلًا:«كنا نُريد من الممثلين أن يكشفوا كلَّ جانب من جوانب التناقض-رعب فيتنام والحياة المألوفة التى يحياها الفرد-حتى يستطيعوا فى النهاية - بدلَ أنْ يُدينوا الجمهور أو يُواسوه-أن يكونوا ما افتُرضَ فى الممثل دائمًا أن يكون:ممثل الجمهورالذى أُعِدَّ ودُرِّبَ كى يسبق المُشاهِدَ هابطًا فى طريق يعرف المُشاهِد أنه طريقُه هو».لهذا خرج أحمد إسماعيل بمسرحه صوب الشوارع والمدارس والقرى والكفور والنجوع؛باحثًا عن «الإبداع الجماعي» بوصفه «تدريبًا على البحث الخلّاق والفكر المبدع والتجسيد المبتكر،فضلًا عن تمثّل وترسيخ آليات العمل الجماعي» وفق تعبيره.لكنه لم يجدْ من يؤازره ويشدّ على يده «فتوقّف كل شيء؛النشاط وحركة تخصيص أراضٍ أخرى فى قرى أخرى وإجراءات بناء المسرح الأول»على حدِّ قوله،وتابعَ:»توقّف كل ذلك مع بداية حكم الإخوان فى يوليو 2012،وذلك على يد سعد عبد الرحمن رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة فى ذلك الوقت،ومحمد كشيك رئيس الإدارة المركزية المختصة،ولم يستطعْ-أولم يرغبْ-كلٌّ من الوزير شاكر عبد الحميد والوزير صابر عرب والوزير عبد الواحد النبوي،فى أنْ يُعيدوا المشروع إلى العمل»،على الرغم من نجاحاته البادية للعيان فى تغيير كثير من المفاهيم المغلوطة والمنحرفة التى تُشوِّه الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الفكرية وتُحرِّم الفن وتُؤثّم الفنانين،المنتشرة لدى عددٍ لا يُستهان به من المدرسين وتلاميذ المدارس ضحايا الفكر الظلامي، والارتقاء بوعيهم إلى ما فوق مستوى الوعى الدينى والإثنى وسواه من أشكال الوعى الطائفى أو المذهبي، وتزويدهم بهدف دائم لا شخصى للإخلاص وللولاء، وتوسيع مدى تعاطفهم الأخلاقي، وإيجاد شعور مشترك بالمواطنة، وإيجاد حيزٍ للفعل الجمعي، وهو ما شهدَ به عديد من الكُتَّاب، وكان محلَّ إشادة وتقدير من المؤتمر القومى للمسرح، ومؤتمر الثقافة فى المواجهة.عندئذٍ تعدَّدَت المطالبات بعودته، فتحمَّس د.سيد خطاب رئيس مجلس إدارة الهيئة السابق للمشروع، وقرَّر إعادته إلى الحياة مرَّة أخري، ولكن بميزانية ضئيلة تُغطى بالكاد ثمانى مدارس أساسية، وأربع وعشرين مدرسة فرعية، فهل يدعم وزير الثقافة..الكاتب الصحفى حلمى النمنم مشروع التنمية المسرحية هذا، الذى كان دافعًا يومًا «لالتفاف أهالى شبرا بخوم حول التجربة واعتبارها برلمانًا للقرية،وإسهامهم فى بناء مسرح بالمجهود الذاتي، ومشاركة الفتيات والسيدات فى عروضه، وخلو القرية من أى مظاهر للتطرف الفكرى والعنف،فضلًا عن الخصوصية الدرامية/الهوية» كما يقول المخرج أحمد إسماعيل صاحب فكرة المشروع، والمشرف الفنى العام؟ ألا يُوفّر هذا المشروع مساحة للاستقلالية الفردية والحرية الثقافية، تحكمها معايير العقلانية والمساءلة النقدية؟