قد يري البعض ان اكبر مكاسب الثورات هو إزاحة أنظمة طاغية ظالمة مستبدة, أو تصدر الوطنيين المخلصين الصادقين في أي انتخابات تجري بنزاهة وشفافية, أو تنفس الناس الصعداء, أو توقف نزيف الفساد والإفساد السياسي, والانحطاط الأخلاقي, والتحلل الاجتماعي, والتخلف الحضاري.. وبالطبع كل هذا جميل لكن أعظم المكاسب, في تقديري هو الحرية فيتكلم الأفراد بكرامتهم, وتشعر الشعوب بحريتها, ويكتب الكاتب دون حساب لمقتضيات دولة بوليسية, أو أنظمة وحشية, أو حكام ظالمين. وهذه الحرية لا يختلف علي تحصيلها أحد, ولا يتنازع في الحفاظ عليها أي قوة سياسية أو فكرية, عندها تتلاشي الأفكار, ويذوب التنوع, ويتوحد الجميع, وتلقي الخلافات والنزاعات جانبا, لأنها مما قامت عليه الفطرة, ونزلت به الشرائع, وجاءت من أجلها الرسالات, واتفقت علي تحقيقها البشرية في كل عصورها. ومن أجل هذا لم يكن كثيرا علي الحرية التي هي منحة إلهية أن نضحي من أجلها بأرواح المجاهدين, وأن تسيل لها دماء الشهداء, وأن تسمع بسببها أنات الجرحي, وتري دموع أمهات الشهداء, فالعبودية, موت, والحرية حياة. وإذا كانت الحرية منحة إلهية أوجدها الله مع خلق الانسان, وجعل قيمتها تعادل قيمة الحياة حين قال تعالي: ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلي أهله إلا أن يصدقوا النساء:.92 فإن القرآن المجيد يقرر أن تحرير رقبة من العبودية هو بمثابة إحيائها من موات, لأنها توازي نفسا مؤمنة حرة ماتت بطريق الخطأ, فكأن القرآن يريد أن يقول: إن العبودية موت والحرية حياة. والانسان خلقه الله وسواه, ونفخ فيه من روحه, وأسجد له ملائكته, وشرفه وكلفه, وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه, ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير ممن خلقنا تفضيلا. الأسراء:70, فكل ما ناقض مبدأ تكريم الانسان, وأهدر كرامته, أو أضعف فيه إنسانيته كان للإسلام منه موقف صارم, فحرم إهانته, وخدش مشاعره, وإهدار كرامته, فضلا عن تعذيبه, وهضم حقوقه, وقتله بغير حق. حتي وصل هذا التكريم وتلك الإنسانية إلي قضية الدين والاعتقاد فيه, فنفي أن يكون في الدين إكراه, بل يعتنق الانسان ما يعتقده عبر التفكير و التأمل بإرادة كاملة وعقل واع ودون أدني إكراه من الداخل أو الخارج, قال تعالي: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. البقرة:.256 وكانت هذه الحرية علي أسمي وجوهها وأكمل تطبيقاتها في عصر الرسالة والراشدين الذي عبر عن الحكم الراشد, ثم تلته عصور بدأت تتراجع فيها الحرية شيئا فشيئا حتي تلاشت أو كادت مع عصور الحكم الجبري الذي تكسر جبروته علي صخرات الجهاد المقدس والصمود المستمر والوقوف أمام الحكام الجائرين, ذاك الوقوف الذي صنعته الشعوب حين طفح الكيل ونفذ الصبر, أملا في أن تسعد بحريتها, وتشعر بكرامتها, وتصل إلي حكم رشيد علي منهاج النبوة. وإنني أكاد أجزم أن ما تتمتع به شعوب الربيع العربي من حريات الآن لم يسبق له مثيل في التاريخ الإسلامي, باستثناء فترة الراشدين التي تعتبر فيها الحرية كاملة بضوابطها, فلم تكد الشعوب تشعر بكرامتها أو تسعد بحريتها كما تتمتع بها الآن.. من أجل هذا كله كان من أوجب الواجبات وأفرض الفرائض في هذا الوقت هو الحفاظ علي الحرية, وعدم التفريط فيها أبدا, وعدم إعطاء فرصة للبغي عليها أو الانتقاص منها, وعدم ترك فراغ من مساحتها ليتمدد فيه الطغاة والمفسدون والمستبدون, فهذه الحرية هي حق الشعوب وحدها لا يجوز لها أن تفرط فيها أو تترك جزءا منها حتي يظهره الله أبدا أو تهلك دونه. لا يجوز لنا مطلقا ان نختلف أو نتناحر فيضيع منا جزءا من هذا المكتسب الأعظم, فلنعض عليه بالنواجذ, وليكن خلافنا. إن كان, في إطاره, وليكن اتفاقنا من أجل تحقيقه وتقريره وتعظيمه, ولتكن وحدتنا وقوتنا من أجل الحفاظ عليه, والجهاد لبقائه واستمراره, بعد أن أنفقنا الكثير من دمائنا وأرواحنا وأمننا لايجاده وتحصيله, فالنفوس الحرة الأبية السوية لا ترتضي أن تفرط في حريتها بعد أن عاشت قرونا تحت قهر الطغيان, وظلم الاستعباد, ونار الاستبداد! د. وصفي عاشور أبوزيد