محمود عبد النعيم الرجل الذى يضحك الأحجار يابشر، وأى جلسة يكون فيها تسمع صوت القهقهات والضحكات الصاخبة من بعيد، ويتجمع الناس تسبقهم ابتساماتهم لابد من الضحك. محمود فى وصلة سخريته يضحك من الجميع وعليهم، لا فرق بين غنى وفقير أو قوى وضعيف، يضحك الفقير على فقره الدكر، ويضحك القوى على انتفاخه الأجوف. ويضحك الحاضرون ويصهلل الضحك فى ليل القرية الصامت. ومحمود لا يضحك إنه يبتسم فقط بينما الآخرون حوله غارقون فى ضحك لاينقطع. وكانت الجدة العجوز مريضة، وأحضروا لها الطبيب الذى تحبه وتطمئن إليه، مرة واثنتين وثلاثا فى هذا اليوم، ولكنها طلبته للمرة الرابعة.. واحتار الأهل ماذا يفعلون والطبيب جاء فى المرة الأخيرة متضررا متضايقا جدا، رغم حبه للجدة المريضة. لكن للمفاجأة كان محمود أبو عبد النعيم يشبه الطبيب تماما، فهو طويل أبيض، وله شارب أصفر مثل شاربه أيضا. ومحمود الذى يعمل مبيض محارة بعض الوقت ويتولى إضحاك القرية طوال الوقت. وجد نفسه هذه المرة يمثل دور الدكتور مصطفى بيومى. ارتدى جاكت أسود فوق جلبابه الأصفر المكوى، فالسيدة عجوز جدا ومريضة جدا فوق سرير عال له أعمدة حديدية سوداء، ولن تلاحظ الفرق بالتأكيد، فهى طوال الوقت نائمة وغائبة عن الوعى تقريبا. أحضر محمود شنطة «سمسونيت» كالتى يستخدمها الأطباء، لكنه لم يحضر سماعة مثلا وأحضر بديلا منها غطاء علبة ورنيش صغير أسود مستدير، وضعه على صدر الجدة المريضة، ونقر بأصبعه مرة واثنتين فوق غطاء الورنيش، وقال خذى نفس ياحاجة، فعل ذلك بكل جدية، ولم يضحك أبدا، هو الذى سيضحك القرية كلها على هذه الحكاية عندما يرويها بعد ذلك. لم يضحك وهو يمسك بيد الجدة العجوز كأنه يقيس النبض، ولم يضحك وهو يشخبط أى حروف كأنه يكتب روشتة، ولم يضحك وهو يتحدث بلهجة الطبيب القاهرية مقلدا الدكتور مصطفى فى طريقة كلامه. بل وقال نفس الكلمات التى كان يقولها الدكتور لمريضته الأثيرة »أنتى زى الفل يا حاجة.. معندكيش أى حاجة.. دول شوية تعب وهيروحوا«. فعل محمود كل شئ كما كان يفعل الدكتور بالضبط.. ولكن السيدة العجوز قالت لأولادها وأحفادها »انتو بتضحكوا على.. ده مش الدكتور مصطفى.. انتو جبتوا دكتور تانى شكله مش عارف حاجة.. أنا عايزة الدكتور مصطفى.». قالت ذلك وأغمضت عينيها، ومحمود الذى يضحك طوب الأرض ويضحك على الجميع لم يستطع أن يخدع الجدة العجوز بعد كل ما فعل، وكان ذلك أكثر شىء يضحكه، ويضحك الآخرين وهو يحكى لهم الحكاية، ويقول عجوز أروبة بس أنا إيه.. كنت دكتور أحسن من الدكتور مصطفى.. أى والله.. ويغرق الجالسون فى الضحك. ورغم أن محمود كبر وعبر الستين من عمره إلا أن قدرته على الضحك لم تضعف أبدا. وحتى عندما أصيب بالفشل الكلوى.. كان عندما تلمع عيناه بالحكايات المضحكة ينسى آلامه ويحكى للناس نوادره فيغرقون فى الضحك. الضحك الذى سيصبح عملة نادرة فى قريتنا بعد أن مات محمود وشيعه الجميع بالحزن الشديد، دون أن يلتفتوا إليه وهو يطل عليهم فى جنازته، يحاول أن يحكى لهم حكاية أخرى تضحكهم، لكنهم لم يفهموا الحكاية هذه المرة ولم يضحكوا كانوا حزانى، وكان محمود يضحك كعادته، يضحك لأنه أدرك أن الحياة ليست إلا ضحكة، وهو فى موته يضحك حتى من حزن الناس عليه. العائدون من الجنازة راحوا ينظرون الى منزل محمود القديم المبنى من طابق واحد بالطوب اللبن كأنهم يرونه لأول مرة ويندهشون كيف اتسع هذا البيت لمحمود وزوجته وأولاده التسعة، وكيف استطاع هذا الإنسان العجيب أن يهزم قسوة الأيام ويحافظ على جلبابه نظيفا، وأن يضحك القرية كلها على نفسه وعلى الآخرين أيضا.