وكأنه علامة تجارية مسجلة.. إنه «حرير أخميم».. عرفه العالم منذ قرون طويلة، ويفخر المتحف البريطانى باحتفاظه بعينات من منسوجاته، التى تعود للقرن السابع الميلادى ، بل إن نصف ما يحتويه قسم النسيج أصلا بالمتحف يعود فقط لأخميم. «حرير أخميم» قديم قدم حضارة المصريين القدماء، ففضلا عن نسيج الكتان، كانت بعض أكفان الملوك تصنع من الحرير المنسوج بها تحديدا. واستمر إنتاج الحرير الطبيعى على مر العصور حتى العصر الاسلامي، وكان من أشهر منتجات أخميم التى لقبت ب«مانشستر الشرق»، قميص للخليفة عبد الملك بن مروان، والأهم من كل ما سبق، أن كسوة الكعبة كانت تصنع هناك.. الآن وفى 2017.. لم يعد هناك نول واحد فى أخميم ينسج الحرير الطبيعي، وحل محله الحرير الصناعي، لتفقد المدينة القديمة أهم مميزاتها التاريخية، رغم القدرة على استعادة ما فقدته بمنتهى السهولة.. فى 2014، تجدد الأمل بعد أن أعلن محمود عتيق محافظ سوهاج السابق عن البدء فى تنفيذ مشروع مزرعة لأشجار التوت لإحياء صناعة الحرير الطبيعي، واستعادة مكانة المحافظة بها، وقامت بالفعل بتخصيص 7 أفدنة فى جزيرة قرامان، وزراعة 28 ألف شتلة. تلاه المحافظ الحالى د. أيمن عبد المنعم، ليعيد تصريحات سلفه نصا، ويقدم الوعود نفسها باستعادة مكانة أخميم فى صناعة الحرير الطبيعي! وبالبحث فيما نشر عن المشروع طوال تلك المدة، لم نجد سوى تلك التصريحات! رحلة البحث عن نول حرير فى أخميم.. أقدم مدن التاريخ، تجولت «تحقيقات الأهرام» فى أزقتها الضيقة الملتوية صعودا وهبوطا، يصحبنا محمد الدقيشى رئيس مؤسسة الفراعنة للتنمية والتطوير والتسويق لمنتجات أخميم اليدوية وهى مؤسسة تعمل على تدريب الشباب على صناعة النسيج اليدوى فى قرية النساجين الجديدة. مررنا على أشهر العائلات التى عملت فى صناعة الحرير. أعيانا البحث عن نول مازال ينسج خيوط الحرير، فكانت الاجابة التى نتلقاها دائما بخيبة أمل: «لا خلاص .. ماعدش فيه حد بيشتغل حرير»! يقول الدقيشى بأسي: عندما سمعت بمشروع جزيرة قرامان، لم أتوقع له الاستمرار، لسبب بسيط وهو غياب الطاقة البشرية التى ستعمل به، فهل يعقل أنه لم يتم التواصل نهائيا مع العائلات المعروفة بعملها فى صناعة الحرير فى أخميم، أو حتى على الاقل العاملة فى مجال النسيج، وهم أولى بالعمل لخبرتهم فيه، بل قاموا بالتواصل مع جمعيات أهلية فى مراكز أخرى فى سوهاج بعيدة عن المجال، وتابع قائلا: «أعتقد أنه لم تتم دراسة المشروع بكل تفاصيله بدءا من عملية الانتاج حتى التسويق، ولابد أن يؤخذ الأمر بشيء من الجدية، خاصة أن تربية دود القز فى الصين تتراجع بعد أن بدأوا يقبلون على تناولها لقيمتها الغذائية العالية، وفرصة مصر الآن أن تدخل المضمار بقوة». هدية قيمة أربع عائلات شهيرة عملت فى الحرير الطبيعى على مدى خمسين عاما فى أخميم هى «سدراك الخطيب أبادير الشبوكشي». وفى معرض المهندس نشأت سدراك، تمكنا من مشاهدة بعض «أتواب» الحرير الطبيعى المتبقية منذ إنتاجها منذ سنوات. يخبرنا « جون» المسئول عن منفذ البيع: «لم يعد هناك إقبال على شرائه، خاصة بعد غلو ثمنه، بسبب ارتفاع ثمن استيراد الخيوط من الصين، كما لم يعد هناك سياحة أجنبية، حيث كان الأجانب يقبلون على شراء منتجاته من قمصان وسجاد، وينبهرون بها ويعرفون قيمتها جيدا، لذلك اقتصر عملنا الآن على صناعة المنسوجات اليدوية العادية من الكتان والاقطان، خاصة المفروشات و«الكوفيرتات». التقط أطراف الحديث علام الشريف، الذى حضر لطلب تجهيز « مفرش سرير» كهدية قيمة، يتم نسج اسم المهدى إليه عليه. يقول علام: «النسيج اليدوى عموما والحرير خصوصا ارتفع سعره للغاية، وهو ما يعنى تراجع الاقبال على شرائه للاستعمال الشخصي، خاصة أن كل الانتاج هنا يتم تسويقه محليا لأهل البلد، وبالتالى يتم الاعتماد على المنتجات الجاهزة لا اليدوية، وهنا يتدخل «جون» من جديد: «كنا نشارك فى معارض تسويق منتجات الحرف اليدوية فى القاهرة، لكن توقفنا بعد أن أصبحت تكلفة المشاركة من تأجير مساحة ونقل المنسوجات، أكبر بكثير من العائد». تجربة لم تكتمل فى معرض خيرى الخطيب للمنسوجات اليدوية وهو آخر الاجيال التى عملت فى صناعة الحرير الطبيعى أدهشنا أنه لا يعلم شيئا عن مشروع جزيرة «قرامان» لإنتاج الحرير، وقال: «لم يتواصل معنا أحد ونحن أهل الصنعة أبا عن جد، مشيرا إلى تناقص الإقبال على شراء منتجات الحرير ،والذى كان مقصوراً على الأجانب وأبناء الطبقات الثرية، ولم يكن هناك تصدير بسبب قلة الكميات المنتجة، فى ظل المنافسة الشديدة من الهند وباكستان والصين. وكشف الخطيب عن أنه حتى وقت قريب كانت منتجات أخميم من النسيج اليدوى عموما تباع فى متاجر هارودز الشهيرة فى لندن. الأجيال الجديدة لم تواصل ما بدأه الاباء والاجداد ، وهو عامل آخر أسهم فى اندثار صناعة الحرير الطبيعى فى أخميم وفق ما يراه الخطيب، فالصنعة تحتاج لحب وصبر، وهو ما لا يتوافر لدى الجيل الجديد، خاصة مع غياب الربح. ولذلك أغلقت مصانع كامل سدراك، ماهر الشبوكشي، وحنا ابادير بعد رحيلهم. للخطيب تجربة مهمة يحكيها لنا فى هذا السياق، حيث سافر الى شانغهاى فى 1997، وشاهد مشروعا لتربية دود القز لإنتاج خيوط الحرير، وكان مشروعا وطنيا يعمل به عدد كبير من الشباب والفتيات، وبالفعل عرض التجربة على محافظ سوهاج حينها اللواء أحمد عبد العزيز بكر، وتحمس محمود عبد العزيز مدير البنك الاهلى حينها للفكرة وأبدى استعداده لتمويل مشروع مماثل فى مصر بمبلغ يصل إلي100 مليون جنيه، وكان من المقرر زراعة 10 آلاف فدان بشجر التوت، يروى بمياه الصرف الصحى المعالجة، لكن الخطيب فوجئ حينها بأحد الاشخاص قد قام بإغراق السوق المصرية ب50 ألف متر حرير مستورد من الصين، يببع المتر الواحد منه فى وكالة البلح بعشرين جنيها!، فتراجع عن استكمال مشروعه، واقتصر على استيراد الخيوط فقط من الصين، حيث كان يتم تربية الدود على نطاق ضيق فى أخميم ، ومع الوقت تم تقليل كميات الخيوط المستوردة تدريجيا، ومنذ عامين لم يقم باستيراد خيط واحد. الخطيب يتمنى فعلا أن تهتم الدولة بإحياء الصناعة التى تستوعب عمالة كثيفة فى جميع مراحلها، وبالتالى المساعدة فى مكافحة الفقر، بشرط الاعتماد على أهل الصناعة ذوى الخبرة حتى يؤتى المشروع ثماره المرجوة. لافتة وشجر توت بالطبع كانت لنا زيارة لجزيرة قرامان حيث يوجد المشروع «الحكومي» المعلن عنه منذ ثلاثة أعوام. سألنا عن أماكن تربية الدود، فلم نجد ردا سوي: لا يوجد دود الآن! فكان سؤالنا التالي: وهل كان يوجد من قبل، فكانت الاجابة بنعم، وتم تغذيتها، إلا أن د. أسامة غازى رئيس قسم بحوث الحرير فى مركز البحوث الزراعية وأحد أعضاء فريق المشروع قد قام بنقل الشرانق للقاهرة. ذهبنا حيث شجر التوت المزروع وفى وسطه لافتة تحمل اسم كل من وزارة التعليم العالى والبحث العلمى ووزارة الزراعة ومركز البحوث الزراعية وصندوق العلوم والتنمية التكنولوجية، ثم عنوان «طويل» للمشروع وهو: «تعظيم موارد الدخل فى قرى صعيد مصر باستخدام تكنولوجيات صناعية وزراعية بسيطة لإنتاج الحرير الطبيعي». فى محاولة لفهم ما جرى فى المشروع ، التقينا د. أحمد عزيز- المستشار العلمى لمحافظة سوهاج- والذى شهد بداياته، فقال: «المبادرة جاءت من خلال المركز القومى للبحوث بالتعاون مع قسم الحرير فى مركز البحوث الزراعية فى القاهرة بتمويل من صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية stdf ضمن برنامجه «تلبية احتياجات المجتمع» ، وحصلوا على موافقة المحافظة، وكان المشروع يهدف لتحسين حالة الفقراء فى محافظات الصعيد كهدف رئيسي، وإحياء صناعة الحرير كهدف فرعي. ويتابع عزيز: «المشروع يشمل مجموعة من المكونات، أولا مزرعة على مساحة 7 أفدنة وفرتها المحافظة فى الجزيرة، وقد تولت المحافظة تجهيزها وتوفير المياه والعمالة اللازمة لتكون نواة المشروع، وثانيا تربية الدود وفك الشرانق ، وثالثا تدريب الشباب والجمعيات الاهلية على مراحل المشروع المختلفة ، وكانت هناك متابعة مستمرة من د. أسامة غازي، وتغلبنا على مشكلات عديدة واجهتنا مثل انخفاض منسوب المياه ، وبينا سورا لحماية الشجر من الماشية التى ترعى فى المكان. ويوضح عزيز أن نشر ثقافة تربية الدود وفك الشرانق من خلال العمل فى المنزل كان الهدف من المشروع، بحيث يشترى المستفيد البيض، ويغذى الدود، حتى مرحلة تكوين الشرنقة، فيقوم بتسليمها لإدارة المشروع ويحصل على مقابلها المادي، وهى عملية مربحة لا تحتاج لرأس مال، لكن إنتاج النسيج الحريرى لم يكن ضمن خطة المشروع. د. عزيز الذى أكد حماس المحافظة الشديد للمشروع منذ بدايته، وليس لديه إجابة عن سبب توقف عملية التدريب، مشيرا إلى أن د. كريمة حجاج المسئولة عن المشروع ود. أسامة غازي، يقومان بزيارات من حين لآخر للجزيرة، وقد وفرت المحافظة أربعة معامل لم تكن مستغلة ،تخص مركز تنمية إقليم جنوب الصعيد التابع لاكاديمية البحث العلمي، خاصة مع عدم إمكانية بناء وحدات جديدة على الجزيرة، بسبب شروط واجراءات غاية فى التعقيد. النتيجة فى نهاية العام بردود مقتضبة ومتحفظة، أجابت د. كريمة حجاج الاستاذ بالمركز القومى للبحوث، ورئيس فريق عمل المشروع، عن استفساراتنا، فكشفت لنا عن أن فكرة المشروع جاءت عقب زيارة لها لليابان، حيث وجدته مشروعا مثاليا لخدمة وتنمية المجتمع وتعظيم موارد الدخل، فتم تكوين فريق عمل من المركز القومى للبحوث ومركز البحوث الزراعية، كل فى تخصصه. تتابع د. كريمة: «بعد حصولنا من المحافظة على 4 أفدنة ثم ثلاثة إضافية، بدأت المجموعة المسؤولة عن زراعة شجر التوت، فى تسوية الأرض الذى استغرقت وحدها ستة أشهر، وبعد الزراعة تم تنظيم ورش عمل لتدريب الراغبين فى الاستفادة من المشروع، سواء فى الزراعة أو التغذية أو الحل أو النسج أو التلوين والصباغة . هنا سألنا د. كريمة: لماذا حتى الان ومنذ بدء المشروع منذ ثلاثة أعوام، لم نحصل بعد على خيوط الحرير، رغم أن الدورة بدءا من مرحلة البيضة حتى إنتاج الشرنقة مدتها 34 يوما، فكان ردها- بنفاذ صبر- بأنها لم تقدم وعودا محددة بتوقيت زمني، وأن كل ما قدموه هو مجرد نموذج أولى prototype وقالت: «أنا مقيدة بمواعيد لازدهار شجر التوت، كذلك تربية الدود لها مواعيد معينة، وعندما يتم التأخر فى توفير بعض المعدات اللازمة سواء للتربية أو لحل الشرانق، يكون علينا الانتظار حتى بدء المواسم من جديد، كما كان يتم تصنيع المعدة اللازمة لفك الشرانق وحل الخيط فى المركز القومى للبحوث، ومن المقرر نقلها لسوهاج، كما أن الخشب الذى تم نصبه من أجل تربية الدود، تمت إزالته ولا بد من إعادة نصبه من جديد، وأضافت حجاج: «المشروع حتى يكتمل يلزمه مستثمر للتمويل والتسويق، فنحن فى النهاية مسؤولون عن الشق العلمي، ومن ضمن مشروعنا أيضا استخراج صبغة من التوت، وعمل عصير ومربي». سألناها عن عدد من حصلوا على التدريب، وهل استفادوا منه فعلا فى إيجاد مصدر دخل لمواجهة الفقر كما جاء فى عنوان المشروع، فأجابت بأن لا علم لها بذلك، وربما يكون عددهم نحو 80 فردا، لكنها أوضحت أن عمل الاسر فى منازلها ليس سهلا، فلابد أن تكون كل العناصر متوافرة فى مكان واحد، وعلى رأسها ورق الشجر الذى تتغذى عليه الدودة بكميات هائلة. كما يجب استيراد البيض من الخارج، مع ذلك فقد أكدت د. كريمة أن ثمرة المشروع ستظهر نهاية العام الحالي. تواصلنا أيضا مع د. أسامة غازي- رئيس قسم بحوث الحرير فى مركز البحوث الزراعية بصفته أحد أعضاء فريق العمل بالمشروع، ومن المترددين بشكل دائم على الجزيرة لمتابعة سير العمل، إلا أنه رفض الحديث عن المشروع إلا بعد تقديم طلب رسمى للمركز، ورغم تقديم الطلب، فإنه اعتذر بدعوى أنه لم يكن يعلم أننا نرغب فى الحديث عن مشروع إنتاج الحرير!! وقال إن د. كريمة حجاج هى الباحث الرئيسي، ولديها كل التفاصيل، فلما طلبنا منه الحديث عن دوره فى المشروع وفقا لتخصصه، قال إن دوره فى المشروع لا يخصنا !! فى الختام: كنا نأمل فى زيارتنا أن نرى عينات من باكورة إنتاج المشروع من خيوط الحرير الخام..كنا نتمنى أيضا أن تستفيد الاسر الفقيرة بحق من هذه المبادرة، وتبدأ تربية الدود فى منازلها، وتحقق دخلا، على الأقل من بيع الشرانق، وليس بالضرورة فكها وحل خيوط الحرير.. كنا نتمنى فعلا ألا نقول: وداعا..حرير أخميم!