بعيدا عن المزايدات والشعارات فإن من يرقب تاريخ الشرق الأوسط الحديث لابد أن يقتنع بأن مصر كانت دائما قبلة أنظار شعوب المنطقة والبوصلة الهادية لجميع البلدان المجاورة وأن كل التغييرات الجذرية التي جرت خلال القرنين الماضيين علي الصعيد الإقليمي اختمرت وتبلورت في مصر أولا فكانت القاهرة علي الدوام هي نقطة الانطلاق لكل توجه جديد. فالنهضة بدأت في مصر علي أيدي رجال كان في طليعتهم العبقري رفاعة الطهطاوي بتشجيع من حاكم مستنير هو محمد علي, ففتحت الباب علي مصراعيه للمنطقة بأسرها لأن تدخل في العصر الحديث بعد أن ظلت حلكة التخلف تلف بها لقرون طويلة. وأخذت الدول العربية تقلد مصر في السعي إلي طريق العلم والتنوير, وظهر المفكرون والمبدعون وبزغت شمس المعرفة حتي وصلت النهضة إلي أوجها في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. وكانت فكرة العروبة قد نشأت علي استحياء في العقول منذ العشرينات من القرن الماضي لكنها ظلت كلمة تتردد في الأفواه لديها بعض الصدي في كتابات تلك الحقبة والأعمال الفنية المختلفة. العروبة ظلت نغمة باهتة وضعيفة إلي أن تبنتها مصر وآمن بها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فسار غالبية العرب وراءها وأصبحت الأيديولوجية الحاكمة في المنطقة لسنوات طويلة. وفي السبعينيات من القرن الماضي عندما أقدم السادات علي تغيير جذري في سياسة المواجهة مع إسرائيل وقرر التصالح مع الولاياتالمتحدة والتقرب من الغرب أدركت أمريكا أنها انتصرت في معركة الشرق الأوسط لأنها تعلم تمام العلم أن مصر مفتاح المنطقة. وبالفعل سارت غالبية الدول العربية علي نفس النهج وكان تحول السياسة المصرية علي يد أنور السادات هو المسمار الأول في نعش الاتحاد السوفيتي السابق. وعندما ارتأي السادات أن أفضل وسيلة لمواجهة اليساريين والناصريين هي أحياء النزعة الدينية لم يكن يتخيل أن الأمور ستفلت من بين يديه وأنه سيكون أول ضحية لنار التطرف والبغضاء. وبسرعة مذهلة استشري تيار الإسلام السياسي ولم يقتصر علي العالم العربي وحده بل سرعان ما كسب أرضا في جميع الدول الإسلامية أو غالبيتها. وكانت القاهرة هي البؤرة الأولي لانطلاق نظرية مكافحة الشيوعية من خلال الإسلام. وقد يعترض البعض بأن مصر لم تقع في براثن التطرف الأعمي والعنف ولم تنادي يوما بالارهاب وسفك الدماء وكل هذا صحيح, لكن واقع الأمر أن النهج الذي سلكه السادات بدعم التيارت الدينية لضرب معارضيه من اليساريين كان الشرارة الأولي التي أشعلت فكرة الإسلام السياسي والجهاد في سبيل الله بديلا عن الجهاد في سبيل الوطن. والأخطر أن الولاياتالمتحدة وجدت ضالتها في فكرة الصحوة الدينية ونجحت في توظيفها لصالحها في المواجهة الكونية بينها وبين الاتحاد السوفيتي السابق. وكان المختبر الذي أفرز المجاهدين في جميع الدول العربية والإسلامية هو أفغانستان التي كانت ترزح تحت الاحتلال السوفيتي, حتي أنه أطلق عليهم في الثمانينات اسم الأفغان مع أنهم كانوا مصريين وسعوديين وغير ذلك. وكانت أفغانستان هي المسمار الثاني في نعش الاتحاد السوفيتي الذي انهار وتفكك إلي عدة دول منها دول إسلامية مثل كازاخستان وأوزبكستان وغيرهما. وكعاتها دخلت إسرائيل علي الخط لاستثمار الأوضاع الجديدة لصالحها وتيقنت من أن إذكاء نار الفتنة الدينية واستغلال الدين في السياسة هو خير وسيلة لضرب التيارات الوطنية خاصة داخل صفوف المقاومة الفلسطينية, ووجدتها فرصة سانحة لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية ومحاولة القضاء عليها فقامت بتشجيع منظمة بديلة تقوم علي الإسلام السياسي وهي حماس فكانت بالفعل شوكة في حلق منظمة التحرير. من يقوم بتحليل موضوعي لتطورات الأحداث منذ أربعين عاما يكتشف أن البداية كانت من مصر حتي وإن لم يكن لها يد في تطور الأمور بالصورة السلبية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من المسلمين من إندونيسيا إلي المغرب. والآن وقد وقع ما لم يكن متصورا منذ أقل من عامين وهو أن يصبح رئيس مصر منتميا إلي التيار الإسلامي فقد تأتي الأقدار بمفارقة من مفارقات السياسة وهو أن يكون انتخاب محمد مرسي بداية النهاية لفكرة الإسلام السياسي والجهاد باسم الدين لا الوطن وإقصاء غير المسلمين ومعاداة الآخرين. والآن يتوجب علينا أن ندرك الحقائق التي آمن بها الشعب المصري منذ بداية القرن العشرين وهي أن التمسك بالدين ليس معناه العودة إلي الوراء بل معناه التقدم والنظر إلي المستقبل.. التمسك بالدين ليس معناه التطرف في تطبيق أحكامه بل معناه الأخذ بما يصلح للمجتمع في الظروف الراهنة.. إعلاء الدين ليس معناه الانغلاق والتكفير ونبذ كل فكر خارجي بل الانفتاح علي العالم والاستفادة من خبرات الغير, ودور مصر الآن هو إعادة العالم العربي والإسلامي إلي إيقاع التطور العالمي ونبذ عقيدة الإسلام السياسي. المزيد من مقالات شريف الشوباشي