كان العام 1989، حين أعلن الفيلسوف وعالم السياسة والاقتصاد الأمريكى اليابانى الأصل فرانسيس فوكوياما «نهاية العالم»، مستندا إلى جدار برلين المنهار وانتصار المعسكر الغربى بالحرب الباردة ، ومبشرا بانهيار الاتحاد السوفيتى الذى وقع بالفعل بعدها بعامين، ليؤسس نظريته التى أخرجها فى كتاب عام 1992 عن «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، ذلك الإنسان الذى يعتبر قمة التطور الأيديولوجى بما بلا يدع مجالا للمزيد من الصراع، حيث الحكومة الديمقراطية الليبرالية هى ذروة التطور الطبيعى للسياسة بالعالم، وهى النهاية المحتومة لحرب الأفكار بين الغرب الأمريكى برأسماليته والشرق السوفيتى بشيوعيته. ثم كان العام 1993، حين رفض العالم الأمريكى صامويل هنتيجتون هذا الطرح، مؤكدا أن صراع الأيديولوجيا بين المعسكرين لن ينتهى بانتصار، بل سيتحول إلى صدام حضارات، معتبرا أن الاختلافات الحضارية والثقافية ستصير المحرك الرئيسى للنزاعات بين البشر فى السنين القادمة، ذلك المفهوم الذى صاحبته العولمة سلاحا اقتصاديا للهيمنة على العالم بدلا من الغزو العسكري، وهو المفهوم الذى لم يزل مترسخا فى عقيدة الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وفى ضوئه يمكن تفسير «الحرب على الإرهاب» التى لم تضع بعد أوزارها منذ هجمات 11 سبتمبر عام 2005. فوكوياما وهنتنجتون يعلنان نهاية صراع الأيديولوجيات وبداية حرب الحضارات، بينما فى فرنسا، يلقى الفيلسوف روجيه جارودى بذور فكرته عن الحوار بديلا عن الصدام، وفى مصر، كان فيلسوف الاجتماع السياسى المفكر الدكتور السيد يسين ينسج من تلك الأطروحات الفارقة المتباينة المتصارعة منهجا فكريا مغايرا، يطرحها ويعرضها ويفندها ويشرحها ويفككها ويبنى على خلاصاتها رؤىً لمستقبل المنطقة وصراعاتها. وبينما تفكير النخب الثقافية المصرية لم يزل عالقا بروابط الوفاء والحنين إلى المعسكرين الأثيرين، بين شرق وغرب ويمين ويسار ورأسمالية وشيوعية، وضع السيد يسين يده على اللب الحقيقى لصراع العصر الحديث، ذلك الذى أبدل رؤى فلاسفة القرنين الماضيين برؤى جديدة تماما هيمنت على الألفية الثالثة بمعايير مختلفة، فجدد الفكر وغير المنهج وطور النظريات وواكب العصر وحمل مشعل التنوير. ذلك فضل السيد يسين بين علماء وفلاسفة آخرين، لم يزل مستترا بين عشرات الكتب التى تركها وراءه، لم ندرك بعد قيمتها الفريدة، ونفائسها المكنونة، ويوما سيذكر التاريخ أن مصر التى أخرجت للعالم جمال حمدان فى الجغرافيا السياسية، أنجبت السيد يسين فى الاجتماع السياسي، فى زمرة من علماء ونوابغ مئات آخرين، لم تزل أضواء الشهرة بعيدة عن إرثهم الحضارى المدفون بين الصفحات الصفراء المهملة. ولو كان ما خلص إليه ابن الإسكندرية الراحل العبقرى من أبحاث فى صراع الحضارات وحوارها، إنجازه الوحيد لكفاه، غير أن الرجل الذى صار مرجعا ثابتا لآلاف الأبحاث والدراسات والمقالات فى حياته، ترك لمريديه وأتباعه إرثا وافيا فى دراسات القضية الفلسطينية، وآفاق حلولها، ودراسات متفرقة معمقة فى مجالات الاجتماع السياسي. أكثر من40كتابا أورثها العالم الجليل لأجيال من بعده، عشرات المقالات بجريدة الأهرام، مئات الأبحاث والأوراق العلمية جاب بها العالم وطرحها على المؤتمرات الدولية المتخصصة، آلاف من التلاميذ خرجهم على يديه معلما وباحثا مساعدا وموجها ومشرفا، ذلك العبقرى المخلص الجواد الأمين الذى لم يخضع لقيود المنهج الفكرى الجامد أو الولاء السياسى الصارم أو الالتزام التنظيمى المكبل، ذلك الحكيم المعطاء الذى أفنى عمره بين علوم السياسة، ولم يتوقف يوما عن البحث والدراسة والتحليل، ولم تخل صومعته ذات صفوف الكتب المتراكبة بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية من طالبى العلم ودارسيه، من مصر وكافة دول المنطقة. قرابة ال20 عاما قضاها العالم الناسك الدكتور السيد يسين مديرا لمركز الأهرام للدراسات حتى عام 1994، أشرف خلالها على آلاف الأبحاث والدوريات العلمية المتخصصة، حتى ندر أن تصادف باحثا فى علوم السياسة والاجتماع، لم ينل من علمه مسموعا فى محاضرة أو مسطورا فى كتاب. ولم تزل سيرة العالم المعلم الفيلسوف، الذى رحل يوم الأحد عن 84 عاما، تحمل فى طياتها الكثير مما سيكشف عنه الباحثون فى عقود مقبلة، وكما لا كرامة لنبى فى وطنه، وكما اعتدنا فى مجتمع يضع العلماء فى مؤخرة الصفوف، ويكرمهم بعد الرحيل، ويدرك فضلهم بعد الغياب، ستظل تركة يسين العلمية مدادا لمئات الدراسات والأبحاث لعقود مقبلة، وسيبقى فضل علمه موصولا بعشرات من الدارسين والباحثين والأساتذة ممن تتلمذوا على يديه ونهلوا من معين خبراته، صدمة كانت يوم الأحد الماضى انطفأ مصباح أنار عقولنا على صراعات العهد الحديث، و أفلت شمس أضاءت بعلومها على مدار عقود. لمزيد من مقالات أحمد الهوارى