هزمت أمريكا في الحرب الفيتنامية فقررت اتخاذ مسار آخر غير مسار الحرب في التعامل مع دول جنوب شرق آسيا بوجه خاص ودول العالم الثالث بوجه عام, مع عدم تغيير الغاية وهي استثمار المتقدم للمتخلف بموافقة المتخلف. وهذا هو تعريفي للاستعمار. وثمة نتيجة مترتبة علي هذا التعريف وهي أن الضعيف هو المولد للقوي وعكس ذلك ليس بالصحيح. وتأسيسا علي ذلك صدر في عام1961 كتاب تاريخي بقلم بول أبرخت(1917-2005) وعنوانه الكنائس والتغير الاجتماعي السريع. وهنا ثمة سؤالان في حاجة إلي جواب: من هو بول أبرخت؟ وما هي الأفكار المحورية الكامنة في كتابه؟ هو لاهوتي سويسري من الكنيسة المعمدانية أدي دورا جوهريا في تحديد مسار الاستجابة المسيحية للتحديات الأخلاقية الحديثة. كيف؟ في عام1949 أصبح من مسئولي مجلس الكنائس العالمي الذي أنشئ في أغسطس عام1948 في أمستردام بهولندا. وهذا المجلس يضم347 كنيسة مسيحية في120 دولة. ثم أصبح في عام1945 رئيس قسم الكنيسة والمجتمع. وفي عام1955 قدم الرأسمالي الأمريكي جون روكفلر منحة مقدارها2.5 مليون دولار لمجلس الكنائس العالمي لدراسة التغيرات التي تمثلت في استخدام الآلات الزراعية والآثار المترتبة علي الهجرة من الريف إلي المدينة, وكذلك الآثار المترتبة علي حركة التصنيع في الدول النامية. وكل ذلك في إطار الصراع بين الرأسمالية والشيوعية. وقد خصصت هذه المنحة لقسم الكنيسة والمجتمع وعندئذ استعان بول أبرخت بوصفه رئيسا لهذا القسم بكل فروع مجلس الكنائس العالمي في مختلف أنحاء كوكب الأرض, وسافر بنفسه إلي المناطق المطلوب دراستها, وكانت مصر من بين هذه المناطق. وقد انتهي أبرخت من هذه الدراسة إلي نتيجة خطيرة مفادها ضرورة تحريك كنائس افريقيا وآسيا للانخراط في المجتمع, ومن ثم يصبح النشاط السياسي والاقتصادي جزءا جوهريا من العمل الديني, الأمر الذي يستلزم إحداث تعديل في مفهوم الإيمان المسيحي بحيث يكون مبررا لهذا الانخراط. ومع ذلك كله ثمة سؤال لابد أن يثار: كيف نشأت العلاقة بين روكفلر ومجلس الكنائس العالمي حتي تكون منحته مشروعة ومقبولة؟ كان الوسيط في نشأة هذه العلاقة هو جون موتJohnMott الذي كان رئيس لجنة نشر المسيحية في العالم غير المسيحي في عام1910, وهو العام الذي انعقد فيه مؤتمر المجلس الدولي للإرساليات, وهو العام أيضا الذي اشتعلت فيه الثورات في المكسيك والصين. ووقتها اعتقد موت أن جون روكفلر يمكن أن يسهم في تشكيل المستقبل السياسي لهذه الدول. إلا أن مشكلة موت كانت تكمن في كيفية إقناع روكفلر بإنجاز هذه المهمة. وقد عثر علي سببين لاقناعه. السبب الأول مردود إلي ضرورة إنقاذ العالم من الشيوعية. والسبب الثاني مردود إلي تسريع المجئ الثاني للمسيح علي الأرض. وكان موت يشتهي أن يتم هذا المجئ في زمانه. إلا أن روكفلر لم يقتنع إلا بالسبب الأول, فقال له موت إن تبرعك سيزيد عمرك علي الأرض بعد أن تموت. ومعني ذلك أن المال هو وسيلة لخلود الروح علي الأرض, فاقتنع روكفلر وبعدها ذهب إلي مجلس أمناء مؤسسته وقال موجها حديثه لكل واحد منهم: عندما تموت وتقف أمام الله ماذا تتوقع أن يكون سؤاله: هل سيسألك عن خطاياك وفضائلك التافهة؟ أبدا. إنه سيسألك سؤالا واحدا ليس إلا: ماذا فعلت عندما كنت عضوا في مجلس أمناء مؤسسة روكفلر؟ يبقي بعد ذلك سؤال: إذا كان صدور كتاب أبرخت في عام1961 ملازما لبداية تأثير مجلس الكنائس العالمي علي شعوب العالم الثالث فهل معني ذلك أن المسيحية قد انفردت بهذه الشعوب أم أن ثمة دينا آخر قد شاركها فيما يبدو أنها قد انفردت به؟. جواب هذا السؤال في المقال القادم. المزيد من مقالات مراد وهبة