يشكل إطلاق الجيش السوري صواريخ مضادة أرض جو على الطائرات الإسرائيلية التى أغارت فجر الجمعة الماضى على أحد المواقع العسكرية السورية بالقرب من مدينة تدمر، والتى تم تحريرها أخيرا من سيطرة تنظيم داعش الإرهابى، يشكل علامة مهمة على تغير السلوك السورى ضد الاعتداءات الإسرائيلية. وتجنبا للوقوع فى مبالغات وتحميل الحدث أكثر ما يحتمل، فإن العودة إلى السنوات القليلة الماضية يساعد على تفهم حجم التغيير فى السلوك العسكرى السورى. فقد اعتادت إسرائيل القيام بغارات على أهداف فى عمق سوريا تطبيقا لسياسة مُعلنة تماما للجميع وملخصها منع حصول حزب الله اللبنانى على أى أسلحة حديثة، وفى الوقت ذاته لم تكن تعلن هذه الغارات أو حصيلتها الفعلية، وكانت تترك للتسريبات الصحفية المجهولة المصدر شرح ما جرى من قبل طائرات كانت توصف بأنها مجهولة لكنها استطاعت أن تدمر شحنة أو أكثر من الأسلحة كانت حسب التسريبات موجهة إلى حزب الله اللبنانى. فى حين كانت المصادر السورية تتجاهل الحدث أو تتعامل معه باعتباره نوعا من الاعتداءات الغامضة، وفى كل الأحوال لم تكن هناك تفاصيل محددة عن هذه الغارات المجهولة أو شبه المجهولة. وقد كان مفهوما للكافة أن الأولوية للجيش السورى هى لمواجهة الجماعات المعارضة المسلحة وتنظيم داعش الإرهابى وحلفائه من التنظيمات التى توالدت بطريقة مخيفة فى السنوات الخمس الماضية. ما حدث فجر الجمعة الماضى يُحدث قطيعة مع سلوك السنوات السابقة، فالجيش السورى استطاع الرد من خلال إطلاق صواريخ أرض جو، وصُفت حسب البيان السورى بأنها استهدفت الطائرات المغيرة وتسببت فى إسقاط إحداها وإعطاب ثانية وفرار الطائرات الأخرى. هنا لم يشر البيان السوررى الى الهدف الذى تعرض للاعتداء إلا بكونه موقعا عسكريا بالقرب من مدينة تدمر المُحررة حديثا، وأن هذا الاعتداء الإسرائيلى يحاول أن يشوش على الانتصارات الأخيرة التى حققها الجيش السورى ومن ثم يرفع معنويات الجماعات الإرهابية بعد الخسائر الرهيبة التى تعرضوا لها. وفقا لهذه النظرة السورية فإن الاعتداء الاسرائيلى هو عمل يخدم الإرهاب والإرهابيين، ويكشف الدور الداعم الذى تقوم به إسرائيل من أجل استمرار حالة الفوضى التى طبعت الوضع السورى طوال السنوات الخمس الماضية، ولذا فإن الرد بإطلاق الصواريخ حتى ولو لم تكن قد حققت أهدافها بإسقاط الطائرات المعادية، فان يوجه رسالة عملية بأن على إسرائيل أن تأخذ فى الاعتبار الأوضاع السورية الجديدة. الرسالة السورية يبدو أنها وصلت إلى المسامع الإسرائيلية، وهنا من المهم إبداء عدة ملاحظات؛ أولها أن اعتراض الجيش الإسرائيلى للصواريخ السورية تم بواسطة منظومة الصواريخ المضادة للصواريخ والمعروفة باسم "السهم" أو "حيتس"، وهى منظومة مخصصة لاعتراض الصواريخ البعيدة المدى والفائقة السرعة، هما صفتان لا تتمتع بهما صواريخ أس 200 الروسية الصنع التى أطلقها الجيش السورى. وثانيا أن إطلاق الصواريخ الاعتراضية صاحبه إطلاق صفارات الإنذار والنزول إلى الملاجئ فى المستوطنات الموجودة فى المناطق الفلسطينية المحتلة بالقدس وغور الأردن، وبما يدل على القلق من أن هناك وضعا عسكريا جديدا يجب وضعه فى الحسبان. وثالثا فإن الحرب هى الحالة الرسمية بين كل من سوريا وإسرائيل، ومع ذلك فلا توجد مؤشرات للتصعيد، بل الأرجح أنه ستتم دراسة فحوى الرسالة السورية قبل اتخاذ أى موقف عسكرى. ورابعا أن الهدف الذى استهدفته الغارة الإسرائيلية غير محدد بدقة، فهو موقع عسكرى سورى حسب البيان الرسمى لدمشق، وبالنسبة لإسرائيل فهو مصنع لإنتاج الصواريخ أس 700 القادرة على الوصول إلى عمق إسرائيل، وهو كذب صارخ لسببين؛ فهذه المنطقة كانت تحت سيطرة داعش الإرهابى الذى خرّب كل شىء، ولا يُعقل أنه سيترك مصنعا للصواريخ على حاله. وثانيا أن هذه المنطقة حررها الجيش السورى قبل أقل من شهر ونصف، وهى مدة لا تكفى لإعادة بناء مصنع للصواريخ وما يتطلبه ذلك من إمكانات فنية وآلات وقطع غيار وعناصر فنية مدربة. والملاحظة الأخيرة، وربما هى الأهم فتتعلق بالموقف الروسى، حيث توجد قوات روسية برية وجوية على الأرض السورية منذ أكتوبر 2015 بما فى ذلك منظومات الرصد الجوى الفائقة الدقة التى يشغلها الروس أنفسهم ولديها القدرة على تغطية السماء السورية بكاملها، ولا يُعقل أن هذه المنظومات الروسية الفائقة الدقة لم تتعرف على الطائرات الإسرائيلية فى أثناء دخولها المجال الجوى لسوريا.وهنا احتمالان، أن الروس عرفوا مسبقا بالغارة من خلال آليات التنسيق الروسى الإسرائيلى المُعلن عنها رسميا من قبل وأساسها عدم سماح روسيا بتغييرات جذرية فى التوازن القائم بين إسرائيل وجيرانها العرب، وهو ما يعنى عمليا عدم إمداد الجيش السورى بمنظومات دفاع جوى أو منظومات صواريخ متطورة تهدد التفوق الجوى الإسرائيلى، ومن خلال هذه الآليات والتفاهمات تغاضت المصادر الروسية عن الغارة الإسرائيلية. أما الاحتمال الثانى وهو الأضعف فهو إبلاغ الجانب السورى بالغارة، والذى قرر أن يقوم بمخاطرة إطلاق صواريخ مضادة تعبيرا عن تغيير قواعد اللعبة، بما فى ذلك رسالة للروس أنفسهم. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب;