هناك كتب طبعت ونشرت بوسائل بدائية منذ آلاف السنين، بدءا من الكتابة على الطين وورق البردى وجلود البقر ولم يفقدها التاريخ صلاحيتها، بل عبرت العصور بكامل عافيتها، مقابل كتب نشرت على ورق صقيل وبأرقى تقنيات الطباعة لكنها فقدت صلاحيتها فور نشرها، وحين نتذكر كتاب الموتى الفرعونى ومطارحات الثالوث الإغريقى الخالد سقراط وأفلاطون وأرسطو وأساطير السومريين وما أنجزه الصينيون القدماء وغيرهم من حضارات الشرق نجد انها تبدو كما لو ان من كتبوها كانوا قادمين من المستقبل حتى فى المجال العمراني، فإن الاهرام وسور الصين وقنوات الرى اليونانية وفن التحنيط تبدو اقرب الى المعجزات البشرية من العجائب، لهذا ارى ان كتابين على الاقل صدرا قبل اكثر من قرن، أحدهما بالعربية لعبد الرحمن الكواكبى هو «طبائع الاستبداد» والآخر لجوستاف لوبون وهو «سايكولوجية الجماهير» قد يعبران عن الراهن اكثر من مئات الكتب التى تصدر الآن، بالرغم من الفارق بينهما، فكتاب الكواكبى يتعذر على من يحققه ان يحذف مفردة واحدة منه، لكن كتاب جوستاف لوبون كما يقول كاتب مقدمته اوتو كلينبيرج يجب ان يقرأ قراءة نقدية بسبب ما طرأ على السايكولوجيا من تطور وما اضيف اليها من كشوفات . وما كتبه الكواكبى قبل اكثر من قرن كان عن طبائع الاستبداد، ولم يكن التاريخ قد أنجب بعد من زواج سفاحى مع الاستبداد ما اسميه صنائع الاستبداد، فالتطور الذى اوصل الرأسمالية والنظم الاوتوقراطية والباترياركية والثيوقراطية الى حدّ غير مسبوق من التوحش افرز نمطا من التصنيع، شمل الاستبداد والطغيان وشحذ نزعة التملك حتى اقصاها، مما دفع عالم نفس هو اريك فروم الى تأليف كتاب بعنوان «ان تملك او ان تكون»، وفيه إحالة متعمدة الى المقولة الشكسبيرية الشهيرة عن سؤال الوجود وهو ان تكون او لا تكون تلك هى المسألة . الكواكبى الحلبى الذى فرّ من الشام ولاذ بمصر فى ايام العثمنة والتتريك وجد فى مصر الحاضنة والرافعة شأن ابناء جيله ممن هاجروا الى مصر، ورغم اهمية كتبه الاخرى ومنها اليوتوبيا القومية المتخيلة بعنوان «ام القري» الا ان طبائع الاستبداد تبقى الاشدّ نفوذا وجاذبية، لأن الرجل رأى فى الاستبداد سلالة ولم يتحدث عنه كما يتحدث الناس فى أيامنا عن الفساد وكأنه مجهول النسب، بحيث تنصب اللعنات كلها وبصورة تجريدية على الفساد ولا تصل هذه اللعنات الى الفاسدين انفسهم، فالاستبداد شرّ أنجبه اب اسمه الظلم، وام اسمها الإساءة، واخ اسمه الغدر، واخت اسمها المسكنة، وعم اسمه الضرّ، وخال اسمه الذل، وهو بدوره انجب توأما احدهما اسمه الفقر واخته اسمها البطالة . وقد تبدو شجرة عائلة الفساد مُتخيلة او إسقاطا عضويا على مفاهيم تاريخية، لكن الحقيقة هى ان السياقات المتداخلة للفساد شأن كل الظواهر هى الرؤية البانورامية الشاملة للمشهد من كل زواياه ، وما كتبه الكواكبى قبل اكثر من قرن عن الاستبداد والدين واستثمار المتطرفين والغلاة للدين لتبرير الاستبداد يبدو طازجا وكأنه فرغ من كتابته بالأمس القريب. فى تلك الآونة كانت بواكير النهضة وتباشيرها تمهد لقيامة عربية لولا ان الإجهاضات المتعاقبة ادت الى تأجيلها، فالمهاجرون من بلاد الشام الى مصر قبل اكثر من قرن لم يكن عددهم يتجاوز واحدا بالألف من عدد المهاجرين الآن بسبب الازمة المستفحلة والمتفاقمة فى سوريا، لكنهم أنجزوا أضعاف ما يمكن ان ينجزه مهاجرو القرن الحادى والعشرين ربما لأن مصر كانت المجال الحيوى الذى يتيح لهم التعبير عن كل ما لديهم من ممكنات، سواء فى الصحافة او المسرح والسينما، ولا يغيب عنا فى هذا السياق ان سليمان الحلبى الذى قتل الجنراك كليبر بوازع وطنى هو شريك الكواكبى فى مسقط رأسه وكذلك السهروردى المقتول الذى كان اخر ما كتبه بدمه على حائط الزنزانة : ارى قدمى أراق دمى . ومنذ طبائع الاستبداد فى زمن الانتداب والوصاية والارتهان وامتصاص نخاع الشعوب حتى صنائع الاستبداد فى زمن العولمة مضى قرن كانت تقاويمه كلها غارقة فى الدم، من حربين عالميتين الى عشرات الحروب المتباعدة والموضعية، وحدث ما يشبه القطيعة مع هؤلاء الرواد الذين انتهوا الى نهايات تراجيدية ودفعوا ثمن الرنين الذى صدر عن الأجراس التى قرعوها بقوة، والكواكبى - كما يلوح من مقارباته ذات الصلة بالدولة - قرأ ابن خلدون قراءة معمقة وغير افقية كما يفعل معظم الأكاديميين، واخذ عنه مقولات منها ما يتعلق بعدوى الاستبداد حين تصيب حتى ضحايا الاستبداد، وكذلك النفاق الذى كان اقصر طريق معبد الى السلطة وابن خلدون كان من اوائل الذين تحدثوا عن خريف الدولة ، ونذر انهيارها وفرّق بين الطبع والتطبع، تماما كما ان الكواكبى فرّق بين المجد والتمجد، فالمجد يصنعه ابطال وطنيون يضحون بحياتهم، بينما التمجد يحاول صناعته أتباع أذلاء يصلون الى الحكم على صهوات خيول الغزاة او دباباتهم لا فرق ! وان كنت قد اشرت الى التزامن بين صور طبائع الاستبداد وسايكولوجيا الجماهير لجوستاف لوبون فذلك لأن ما يحدث الآن يشبه الى حد كبير ما اشار اليه لوبون فى زمانه، وهو دور الميديا المؤدلجة والمدججة بالبروباجاندا فى شحن الرأى العام بكل ما هو مضاد لمصالحه الوطنية والقومية والإنسانية، لأن امثال جوبلز وجدانوف لم تمت نظرياتهم فى التضليل معهم، وهناك اطراف متخصصة فى تمديد صلاحية التضليل وإعطاب البوصلات وخلط الأولويات لكن من خلال التلاعب بتواريخ الصلاحية . والغرب الذى يزعم انه يعانى من فائض الليبرالية والشفافية والديمقراطية اصبحت له مصانع ومختبرات خاصة لتصنيع الاستبداد خارج حدوده لأنه من خلال ظلاله واصدائه وسماسرته يستطيع الاستمرار فى النهب والتمدد والتحكم عن بُعد، واذا كان عرب الالفية الثالثة بحاجة الى قيامة قومية تخرج النهضة المفترى عليها من سباتها فإن حروب الاستقلال التى خاضوها لم تكتمل بعد، لأن النوستالجيا الامبراطورية والكولونيالية لم تغادر رءوس هؤلاء الذين لا يطيقون الاعتراف بأن ضحاياهم لعدة قرون بلغوا رشدهم الوطنى والتاريخى واعلنوا الفطام عن الحليب السّام !! لمزيد من مقالات خيرى منصور;