تعد جامعة الزيتونة بتونس الى جانب الأزهر الشريف والقرويين بالمغرب أقدم وأعرق مؤسسات العلم والتعليم الديني الإسلامي . ويسبق جامع الزيتونة شقيقيه هذين في تاريخ التأسيس بنحو قرن ونصف قرن ، فهو يعود الى عام 734 ميلادية. ومع أن التعليم الديني الإسلامي أعيد تنظيمه وإصلاحه بتونس في عهدي أحمد باى 1842 والرئيس الحبيب بورقيبة بخمسينيات وستينيات القرن العشرين ليقتصر على العلوم الدينية والشرعية في هذه الجامعة. وعلى خلاف إصلاح الأزهر في مصر الستينيات، فإن جامعة الزيتونة تختزن تاريخا يمتد إلى القرن الثامن الميلادي وتفخر بأعلام أشعوا على المجتمعات العربية كافة بأفكارهم المستنيرة كإبن خلدون ومحمد الطاهر بن عاشور و الطاهر حداد، فضلا عن الشيخ محمد خضر حسين الذي تولى مشيخة الأزهر بين 52 1954. وفي هذا الحوار مع العالم الدكتور هشام قريسة رئيس جامعة الزيتونة محاولة لاستدعاء التاريخ المشترك للزيتونة والأزهر في مواجهة الأفكار المتطرفة والتكفيرية والتفاعل مع إعلان الأزهر الشريف للمواطنة والعيش المشترك الصادر مطلع الشهر الجاري من القاهرة ،خصوصا وأن قريسة له إسهاماته في هذا السياق. ولعل آخرها دراسته « ميثاق الإسلام في تحديد العلاقات ونمط التعايش بين البشر « و مشاركته بالعاصمة الأردنية عمان نوفمبر الماضي في مؤتمر «حوار التنوع الديني: التعددية والتسامح والتماسك الاجتماعي في المنطقة العربية» فإلى نص الحوار: كيف تشخص العلاقة بين الأزهر والزيتونة ؟ العلاقة قائمة بين هاتين الجامعتين العريقتين منذ تأسيس الأزهر في القرن العاشر الميلادي (970م) .وهي بالطبع أقدم من الاتفاقات العلمية بين جامعتين في العصر الحديث أو تنظيم الندوات هنا وهناك قبل نهاية الألفية الميلادية الثانية . ونحن والأزهر مدرسة فقهية واحدة . وعلماء وأئمة الزيتونة والأزهر من أعلام تونسيين ومصريين جرى تداول أعمالهم وشروحهم وتنقلوا بين البلدين . و المذهب المالكي ( السائد في تونس وهو من بين مذاهب السنة ) أسهم في تطويره أزهريون . ومن جانب جامعة الزيتونة فهي إلى الآن ومستقبلا تستدعى شيوخ الأزهر كي يشاركونا في تعليم طلبتنا علوم التفسير والتجويد والقراءات .وننتظر قدوم المزيد من الأزهريين بيننا هنا في الجامعة لتدريس العلوم الشرعية بحلول مايو المقبل . ما هو موقف جامعة الزيتونة من إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك الصادر أخيرا في القاهرة بوصفه أحدث وثائقه في مواجهة التطرف؟ دعم إعلان الأزهر ضرورة . ونحن ندعمه .ومصر وتونس رائدتان في هذا التوجه من أجل المواطنة والتعايش المشترك والتأسيس للسلام بين مختلف الطوائف وعلى أساس من عقد اجتماعي. كيف ترى رفض الإعلان استخدام مصطلح الأقليات ؟ هذا المصطلح لا يخدم طموح الأمة العربية والإسلامية.ولعل إعادة تقديم النموذج الإسلامي المستنير للعالم يتوقف على ترك ونبذ مثل هذه الاستخدامات الاصطلاحية القديمة. ونحن في جامعتنا هنا سننظم منتصف شهر مارس الجاري في مدينة القيروان ندوة بعنوان «الخطاب الديني و الدولة الوطنية « .هذه قضية مركزية في عالمنا العربي الإسلامي ويجب أن نأخذ بمفهوم العقد الاجتماعي. فقد تأخرنا كثيرا . ما موقفكم من استهداف الإرهاب للأقباط المسيحيين في شمال سيناء وتهجيرهم؟ كل هذه الممارسات تتناقض وتتعارض مع حضارتنا وتاريخنا وقيمنا .والتعرض للأقباط بأي نوع من الأذى أو إنكار مواطنتهم أمور ترفضها القيم الإسلامية . ونحن كمسلمين لنا مع أقباط مصر بخاصة و مسيحيي العالم الإسلامي بصفة عامة علاقات تاريخية . فمنذ أن ظهر المسلمون في المشرق كان معهم المسيحيون في علاقة تاريخية متواصلة ودائمة . ولنا معهم مشتركات تنبع من الرسائل السماوية. ونحن كمسلمين نؤمن بأنبيائهم. ولاشك أن المسيحيين اسهموا بقوة في الحضارة الإسلامية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا . هم بالأصل من مكونات حضارتنا الإسلامية ولهم إسهامات لا يمكن إنكارها .كما أنهم دافعوا مع المسلمين عن فلسطين ضد الصليبيين رغم اشتراكهم معهم في العقيدة الدينية . لا يمكن أن ننسى أن مسيحيي المشرق دافعوا عن مصر مع صلاح الدين الأيوبي ضد الحملة الصليبية . ويجمعنا تاريخ مشترك وجغرافيا مشتركة ودفاع مشترك عن مقدساتنا ومقدساتهم فكيف نأتي ونطعنهم . ألم يقل الرسول صلي الله عليه وسلم :» من آذي ذميا فقد آذاني». كيف ترى إمكانية العمل مع الأزهر الشريف للتصدي للفكر المتطرف والإرهاب؟ العمل المشترك مع الأزهر وغيره من الجامعات الإسلامية لم يعد اختيارا أو ترفا فكريا .بل أصبح ضرورة فكرية واجتماعية من أجل سلامتنا وبقائنا جميعا .وعلى الجامعات والمراكز العلمية أن تضع المشروعات الثقافية والعلمية لبناء الجسور وتطويرها .وليس مع المسيحيين فقط . بل مع حضارات العالم كافة . وعدم قيام جامعاتنا الإسلامية بدورها العلمي التاريخي لاشك أنه ترك فراغا استغلته الجماعات المتطرفة .هي للأسف ملأت فراغا نشأ. كيف يمكنكم إيجاز الخبرة التونسية استنادا إلى الزيتونة في مقاومة التطرف الديني وسعي المتطرفين للسيطرة على المساجد ؟ الوعاظ في تونس كلهم من خريجي جامعة الزيتونة .وكذا كل من يقوم بتدريس الدين في المدارس والمعاهد .والدولة التونسية لا يمكنها أن تكلف في تلك الوظائف إلا خريجي الزيتونة. ولو جاء شخص ما وتجاوز حده سواء في مسجد أو مدرسة يجرى عزله وتعويضه بآخر . ولدينا تنسيق بين الجامعة هنا و بين وزارة الشئون الدينية ومؤسسات المجتمع المدنى لمكافحة التطرف والإرهاب. نظمنا لقاءات وخضنا نقاشات وتوصلنا بالحوار إلى التوافق على العمل المشترك للتصدي لهذه الآفة. أي علاقة بين جامعة الزيتونة وسلطة الدولة .. كيف تلخص هذه العلاقة منذ ما قبل الاستقلال والى ما بعد الثورة مرورا بعهد بورقيبة؟ نشأت هذه الجامعة في تنظيمها الحديث بعد الاستقلال مع إلغاء التعليم الديني التقليدي القديم عام 1961.لكننا بالقطع ورثة الجامع الأعظم .نحمل تاريخا يقارب 13 قرنا . وحرصت الجامعة على الحفاظ على حيادها العلمي في علاقتها مع السلطة السياسية حتى في أيام بورقيبة .بالطبع شاب العلاقة نوع من التوتر . لكن ظل علماء جامعة الزيتونة حريصين على ممارسة لون من الاستقلال الذاتي . الزيتونة طبعا مؤسسة تتبع الدولة ومازالت . لكن لم يصدر عنها بيانات أو مواقف سياسية . وعلى سبيل المثال فقد أراد بورقيبة منها إصدار فتوى تعزز دعوته لإفطار شهر رمضان (عام 1960 ).لكن مشايخ الزيتونة لم يعطوه أبدا هذه الفتوى. والآن بعد الثورة اختفى التوتر في العلاقة مع السلطة السياسية ومعها المضايقات الأمنية للأساتذة والطلاب الأمنية .وهو ما حدث سابقا وفي عهد بن على .ربما كان لدينا قبل الثورة إمكانات مالية أكبر.لكن الدولة أصبحت الآن تدافع عن مشروعنا الزيتوني بوصفه وسطيا سمحا .ونحن الآن نضع اليد في يد مؤسسات الدولة لمقاومة التطرف. هل تطلعنا على عدد طلاب الجامعة وكلياتها .. وهل هناك طلاب غير تونسيين؟ عدد الطلاب في حدود 2800 طالب في جميع المستويات وحتى الدكتوراه .والجامعة تضم ثلاثة معاهد لأصول الدين والحضارة الإسلامية و لعلوم الإسلام ومركز للدراسات للعلوم الإسلامية.وتتوزع هذه المؤسسات التعليمية : اثنتان في تونس العاصمة واثنتان في مدينة القيروان بوسط البلاد حيث جامع عقبة بن نافع . والجامعة متخصصة فقط في العلوم الدينية الشرعية لكنها تقوم في هذا السياق بتدريس مناهج للعلوم الإنسانية والقانونية والاقتصادية . أما بالنسبة للطلاب الأجانب فهم نحو 20 في المائة فيما قبل الماجستير والدكتواره . وعندنا طلاب من 16 جنسية أفريقية وآسيوية . وأستاذتنا ومعلمونا كلهم تونسيون .لكن ليسوا كلهم من خريجي الزيتونة . فدلينا من تعلم في الأزهر وفي سوريا والسودان و اليمن . *كيف يمكن إحياء التراث التنويري لكل من الإمام المصري محمد عبده والعلامة التونسي محمد الطاهر عاشور صاحب «تفسير التحرير والتنوير»؟ هذان عالمان جليلان يشتركان في أنهما طورا مشروعا إصلاحيا منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وحاولا النهوض بأمتنا. وإحياء أفكارهما يتطلب المزيد من دراسة تراثهما المكتوب وإلقاء المحاضرات وتنظيم الندوات والملتقيات العلمية المشتركة حولهما. ونحن دائما ما نعقد الندوات عن الشيخ عاشور كما ندرس في مناهج جامعتنا الزيتونة الإمام محمد عبده.