هل أنتهت الأزمة بين الأناضول وألمانيا ، بدعوة برلين ظهر الإثنين الفائت لنظيرتها أنقرة بضبط النفس وأن تنأي بنفسها عن التصريحات التي من شأنها التأثير سلبا على العلاقات بين البلدين ؟ ، سؤال لا يبدو أن إجابته ستكون بنعم ، فالتوتر سوف يستمر إلى أمد غير معلوم نهايته طالما استمرت معطياته كما هي دون تغيير . بيد أنه لم تمض سوى ساعات قليلة على كلام « ستيفن سيبرت « المتحدث باسم المستشارة « إنجيلا ميركل « ، الذى شدد فيه على أهمية الحفاظ على الشراكة الوثيقة والتزام الهدوء، إلا وتعلن الشرطة الألمانية عن إلغاء تجمع رابع مؤيد للرئيس التركى كان مقرر انعقاده فى مدينة هامبورج وبحضور وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو، ليلحق بأقرانه الثلاث الذى كان يفترض أن يشارك فيه وزيرىا العدل والاقتصاد التركيان. ووفقا لما هو مرئي، فالجفوة ممتدة لتشمل بلدان نافذة بالقارة العجوز، هى أصلا لا تبد تعاطفا يذكر نحو رجب طيب اردوغان ولا تخف امتعاضها من سياساته وميوله السلطوية ، فى مقدمتها النمسا التى أكدت على ضرورة أن تحذوا كل العواصم الأوروبية حذو ألمانيا ، وتمنع إقامة اية مؤتمرات دعائية للأخير ، ولم تكتف بذلك بل عادت مجددا، مطالبة بتجميد مفاوضات عضوية تركيا فى الاتحاد الأوروبى ، وهى بالأساس متعثرة ولا يبدو أنها ستجد مرفأ لها قريبا. يليها اليونان العدو التقليدى لوريثة الإمبراطورية العثمانية ، وذلك على خلفية رفض أثينا تسلم عسكريين أتراك فروا اليها طلبا للنجاة من مقصلة الأعتقالات التى طالت الآلاف ومازالت مستمرة بلا هوادة ، وها هى هولندا تدخل على خط المواجهة معلنة سحب قرار سابق لها بمؤتمر ترويجى لحزمة التعديلات الدستورية ، على اراضيها وكان ينتظر مشاركة تشاويش أوغلو يوم السبت (11 مارس الجارى). وتأسيسا على ذلك تبدو هناك قناعة لدى الساسة بمعظم البلدان الأوروبية إن لم يكن كلها، بما فيها تلك التى يفترض أنها تشكل امتدادا عرقيا للأتراك، سواء أكان ذلك على مستوى النخب التى هى فى سدة الحكم أو المؤسسات ومنظمات المجتمع المدنى، تتلخص فى أن وريثة الإمبراطورية العثمانية بات يفصلها عن الحرية وفق المفاهيم التى يعرفونها بون شاسع. فتركيا لم تعد مصدر إلهام ونجمها الإقليمى الصاعد سرعان ما أصابه الأفول مقارنة لما كان عليه خلال النصف الأول من السنوات الاثنتى عشرة التى أمضاها الرئيس رجب طيب أردوغان فى منصبه كرئيس للوزراء، واليوم، تواجه البلاد تحديات لا حصر لها فى مقدمتها الاستبداد والنمو الاقتصادى المتواضع وعملية السلام الكردية التى وئدت ، صحيح لم يكن هناك وئام بينها وبين الاتحاد الأوروبى ورغم ذلك فإن المسافة بينهما نادراً ما كانت بعيدة كما هو الحاصل حاليا ، والدليل على ذلك أن العلاقات بلغت مستويات متدنية غير مسبوقة. غير أن الشىء الذى أصاب مراقبين هنا بالدهشة والحيرة معا ، واعتبروه من قبيل الفانتازيا العبثية ، هو أن القائمين على صناعة القرار فى تركيا ، لا يكفون فى خطاباتهم الشعبوية « الديماجوجية « عن ترديد عبارات « فلكلورية « تشكك فى أن تكون أوروبا ديمقراطية فى الواقع المعاش ، ويكفى الصفات الرئيس التركى التى أطلقها صوب الغرب إجمالا والمانيا بوجه خاص ، فمع ممارسات الأخيرة فهى لا علاقة لها البتة بالديمقراطية التى هى فقط مطبقة فى « البلد الذى يتباكون عليه كونه طبقا لمزاعمهم أصبح نظامه ديتكاتوريا». تبا لهؤلاء جميعا وليذهبوا إلى الجحيم، هكذا ذهب منظرو العدالة والتنمية الحاكم ، فى تحليلاتهم التى لا تتوقف ليل نهار على شاشات التلفاز وصفحات الصحف ، بحيث يجدهم المتابع وهم ينددون ب « الأشرار الذين يتجاهلون إرادة الشعب التى جسدتها صناديق الاقتراع بعناوينها الناصعة التى دحضت مؤامرات المتآمرين وأتباعهم المأجورين ، ونتائج الإستفتاء القادم فى إبريل ستخرسهم إلى الأبد . لكن فى المقابل ورغم القيود المفروضة تخرج أصوات متحدية الحصار ، تفند ما تقوله الزمرة الحاكمة ومن يدور فى فلكهم يذكرونهم بفضائح قطع التيار الكهربائى فى مراكز فرز الاصوات حتى يتم استبدال اوراق التصويت بأخرى أعدت كى تكون جاهزة فى اللحظة الحاسمة، كما حدث فى ماراثون المحليات بالعاصمة أنقرة وإسطنبول وأنطاليا قبل ثلاث سنوات وهذا ليس مستبعدا أن يحدث فى السادس عشر من إبريل خاصة أنه لا يوجد يقين جازم بأن الأغلبية ستصوت بنعم نظرا لحالة الاستقطاب والانقسام التى يعيشها المجتمع التركى . ولأن المعارضة لديها ما تبرهن به على صحة انتقاداتها للحكومة فهى دائما تجد من يساندها حتى وأن لم يكن هناك ترتيب خصوصا الخارج الأوروبى الذى تصوره الميديا الأردوغانية للرأى العام بالشيطان الرجيم ، آخر فصول تلك الشيطنة الملعونة التى تحاول خنق الطامح لنظام رئاسى محوره هو دون غيره، وفى مصادفة مثيرة تزامنت مع غضبة الفرنجة الحالية على الباديشاه العثمانى الجديد ، إذ أصدرت محكمة لجرائم الحرب تابعة للأمم المتحدة بيانا قالت فيه إن تركيا تنتهك استقلالها القضائى باحتجازها أحد قضاتها وهو «أيدن سيفا أكاى» الذى تم اعتقاله وهو قاض فى «آلية المحاكم الجنائية الدولية»، وذلك للأشتباه فى ضلوعه بمحاولة الانقلاب الفاشلة فى يوليو الماضي، ولتحيل القضية برمتها إلى مجلس الأمن. وهذا تطور خطير لم تتوقعه أنقرة الرسمية التى تجنبت التعليق والسبب أنه يضعها أمام معضلة قد يفسر مضمونها على أنه بداية لتدويل مأساة آلاف القضاة الذين يقبعون خلف القضبان فى السجون التى امتلأت عن آخرها ولأن الأعتقالات مستمرة على قدم وساق يعد حاليا تشييد المزيد من الجدران بعموم البلاد. فى ظل تلك المشاهد المضطربة ما الذى يمكن توقعه ؟ فالاوروبيون مدركون تماما أنه لا مكان لتركيا بينهم وفى الوقت نفسه ليس من مصلحتهم أن يصل التدهور معها لمدى أبعد خشية أن ينفذ اردوغان تهديداته ويلغى اتفاق المهاجرين وهو ما يعنى زحف جحافل اللاجئين لبلدانهم ، فهل سيصمتون أم سيصعدون انطلاقا من أنه لا يمكن المساومة أبدا على الديمقراطية؟