المقارنة بين ما يكتبه كتابنا الكبار اليوم، وما ينشر فى وسائل الإعلام، وما كان يكتب وينشر منذ مائة عام، تثير الكثير من الأفكار والأسئلة عما حدث للمجتمع المصرى خلال هذه الفترة، فأدى إلى هذه الفوارق الشاسعة. إنى لا أقصد لغة الكتابة (وإن كان هذا يلفت النظر أيضا)، بل مضمونها، وأقصد على الأخص موضوعا بذاته كان دائم التردد على أقلام كتابنا وألسنتهم، ولا تكاد تجده فيما يكتب وينشر اليوم. أقصد موضوع «النهضة»، وما تحتاجه مصر حتى تلحق بالأمم الأكثر تقدما فى مضمار الحضارة. هل يمكن حقا أن يكون موضوع «النهضة» قد اختفى من جدول أعمالنا، لعلنا نعبر الآن عن الهدف نفسه ولكن بتعبيرات مختلفة؟ قبل منتصف القرن الماضى لم يكن شعار «التنمية الاقتصادية» شعارا مألوفا، ولا تعبيرات مثل «الدول المتخلفة اقتصاديا»، ولكن سرعان ما انتشر التعبيران ومرادفاتهما، واعتبرت التنمية الاقتصادية هى الهدف الأسمى أو الأكثر إلحاحا للدول التى أطلق عليها اسم «العالم الثالث»، احتل هدف التنمية الاقتصادية بسرعة مكانة هدف النهضة، ولم تذرف أى دموع على هذا الاستبدال، مع أنه كان ينطوى فى الحقيقة على تغير خطير فى طموحات هذه الدول وفى السياسات التى تتبناها حكوماتها. من الشيق أن نحاول تفسير هذا «التحول» من شعار أو هدف النهضة إلى شعار وهدف التنمية الاقتصادية، هناك عدة تفسيرات ممكنة. كان شعار النهضة شائعا طوال عصر الاحتلال الأجنبى الدول العالم الثالث، وكثيرا ما كان المقصود بالنهضة ما يمكن لهذه الدول أن تحققه متى نجحت فى التخلص من الاحتلال، واستردت الدولة إرادتها المستقلة فى تحديد أهدافها وأولوياتها، وفى اتخاذ الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف. لقد بدأ الاحتلال فى نظر شعوب هذه الدول، وكأنه العقبة الأساسية (بل وربما الوحيدة)، وأنه بمجرد التخلص منه يمكن تحقيق التقدم أو النهضة فى مختلف جوانب الحياة الديمقراطية فى السياسة، والتصنيع فى الاقتصاد، ومحو الأمية وتحقيق ازدهار ثقافي.. إلخ كانت كلمة «النهضة» تعبيرا ملائما عن كل هذه الآمال، فلما تحقق الجلاء ونوع أو آخر من الاستقلال السياسي، بدا التقدم الاقتصادى وكأنه الهدف الذى يستحق اكبر قدر من الاهتمام ومن ثم أصبحت «التنمية الاقتصادية» فى مقدمة ما كان يعلنه الحكام الجدد (وكثيرا ما كانوا من قادة الانقلابات العسكرية) كأهداف للمرحلة الجديدة. ولكن يلاحظ أيضا (وهذا هو التفسير الآخر، وإن كان وثيق الصلة بما سبق) أنه مع انتصاف القرن العشرين كانت الحرب الباردة قد بدأت تشتد بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكى، وقد اتخذت شكل الحرب الدعائية من ناحية، والتنافس فى تقديم المعونات الاقتصادية لدول العالم الثالث من ناحية أخري. فجأة أصبحت «المعونات الاقتصادية» موضوعا شائعا فى وسائل الإعلام، ولكن المعونات تستهدف التنمية الاقتصادية ومن ثم شاع الحديث عن التنمية أيضا. لابد أن نلاحظ بالإضافة إلى ذلك تحولا مهما فى السياسة وفى اهتمامات الرأى العام منذ انتصاف القرن العشرين هل يمكن القول بأنه منذ ذلك الوقت بزغ عصر جديد يمكن وصفه «بعصر الاقتصاد»؟ إن الأمر لا يقتصر على التحول المفهوم تماما فى أولويات الدول حديثة الاستقلال، إذ تقفز التنمية الاقتصادية مباشرة إلى قمة الأولويات بمجرد تحقيق الاستقلال، بل يمكن أن نلاحظه أيضا على الدول الأكثر ثراء والمسماة بالدول المتقدمة. لقد شاع فى خمسينيات القرن العشرين القول «بانتهاء عصر الأيديولوجيات»، وكان هذا القول يعبر عن تحول حقيقى على أرض الواقع: الخلاف بين المعسكرين الرأسمالى والاشتراكى بدأ يظهر أنه فى الحقيقة خلاف اقتصادي، أو محاولة من جانب الدول الاشتراكية (الأقل تقدما اقتصاديا وتكنولوجيا)، للحاق بمستوى المعيشة الذى حققه الغرب، فى ذلك الوقت ظهرت المقولة الشهيرة للمفكر الفرنسى «ريمون آرون»، بأن المعسكرين أخذا فى التقارب، أحدهما من الآخر، بسبب عوامل اقتصادية، ورغبة الأقل تقدما اقتصاديا فى اللحق بالأكثر تقدما، وأن التقارب الاقتصادى إذا وصل إلى حد معين لابد أن يقترن بتقارب سياسى وأيديولوجي، بل ربما وصل التقارب إلى درجة تزول معها الخلافات الأيديولوجية. مع حلول الستينيات وظهور ما سمى «بالوفاق بين المعسكرين» فى أواخر ذلك العقد، ظهر أن الكلام عن انتهاء عصر الأيديولوجيات فى محله، ورأينا تقاربا مماثلا بين الأطراف المتنازعة داخل العالم الثالث أيضا، إذ كيف يستمر الأتباع والأنصار فى النزاع وهم يرون توافقا وتقاربا بين المتنازعين الرئيسيين؟ شيئا فشيئا حل التنافس الاقتصادى محل التنافس السياسى والعقائدي، وسرعان ما رأينا الصين، التى بدأت بتقديم نفسها كحاملة للواء أيديولوجية عريقة، تلحق بالسباق وتشترك فيه، وأخذت الصين بدورها تتكلم لغة الاقتصاد أكثر من أى لغة أخري. فى مثل هذا المناخ السائد اليوم، كيف نتوقع أن يظل لشعار «النهضة» السحر القديم؟ إن عصر «التنمية الاقتصادية» يلائمه كلام عن معدلات النمو فى الناتج القومى الإجمالى ومعدلات الاستثمار، أما عصر «النهضة» فقد كانت تلائمه اهتمامات أخرى أكثر شمولا، وربما قال البعض أيضا أنها كانت «أكثر نبلا». لمزيد من مقالات د. جلال أمين;