عندى لحضراتكم قصة شاب.. يقينًا هو رمز سمات إنسانية عظيمة.. جمعت اليقين والإرادة والثقة والإصرار والعزيمة والصلابة والتفاؤل.. وكل ما هو إيجابى فى الحياة!. حكاية هذا الشاب من فصلين أو هى حكاية فيها حكايتان!. الحكاية الأولى غريبة والثانية يقينى أنها الأغرب على الإطلاق!. حكاية الشاب الأولى.. أنا كتبت عنها فى نفس هذا المكان.. فى 30 مارس 2007 ووقتها أدهشتنى قصة هذا الشاب الذى رأيته مزيجًا من اليقين والثقة والإصرار والعزيمة.. وكيف لا يكون وهو من قرر فى عام 2005 وعمره 21 سنة.. قرر أن يكون بطلاً فى التنس!. بطل وليس مجرد إنسان يمارس لعبة للتمتع بممارستها.. والغريب أن الهدف المستحيل تحقق بعد سنتين فى 2007 التى شهدت أول مشاركة له فى بطولة تنس محترفين!. وقتها كتبت وقلت: هذه حكاية شاب مصرى عمره ثلاثة وعشرون عامًا.. طالب فى إحدى الجامعات مثل شباب بالملايين.. لكنه اختلف عن الملايين.. وفعل ما لم يفعله شاب مصرى من قبل!. الشاب قبل سنتين وعمره 21 عامًا.. وجد داخله رغبة فى أن يكون بطلاً رياضيًا.. وكل يوم هذه الرغبة تزيد إلى أن أصبحت قوة هائلة داخلة تدفعه لطريق هو لا يعرف أين تقع بدايته لأنه أصلاً لم يمارس من قبل الرياضة.. حتى يكون بطلاً فيها!. حاول أن ينسى وفشل.. فقرر أن يكون بطلاً رياضيًا بالمخالفة للسوابق والأعراف وعالم التدريب.. وكلها تشير إلى أن طريق البطولة يبدأ من الطفولة وليس من عمر ال21 سنة!. قرر أن يكون بطلاً فى التنس.. وعندما أفصح عن رغبته إلى النادى الذى هو عضو فيه.. قوبلت رغبته بردود فعل مختلفة.. كلها اجتمعت على استحالة حدوث ذلك.. وتباينت فى الشكل.. ما بين دهشة واستغراب إلى سخرية واستهزاء.. والغريب أن ردود الفعل الحادة.. زادته إصرارًا!. هو على يقين بأنه سيكون بطلاً وكل من حوله متأكدون أنه مستحيل حدوث شىء من هذا.. هو داخله دافع وحافز وحوله النقيض تمامًا متمثلاً فى مناخ إحباط بالغ وهائل.. وبعد شهرين أيقن استحالة أن يفعل أى شىء وسط هذا المناخ من الإحباط والتيئيس الذى يحيط به.. فقرر الرحيل!. سافر إلى إسبانيا والتحق بأحد أندية التنس المتخصصة ليتعلم اللعبة على يد مدرب اسمه خوان كارلوس فيريرو واستمر أربعة أشهر توجه بعدها إلى فرنسا لمزيد من التعليم فى ناد متخصص.. وصلت ساعات تدريبه فيه يوميًا إلى عشر ساعات وهناك قابل مدربًا فرنسيًا من أصول جزائرية اسمه كريم علوى.. وعندما عرف المدرب بأمره وشاهده فى الملعب قرر أن يتولى تدريبه بدون مقابل لاقتناعه بأنه أمام نموذج لم يحدث له مثيل من قبل فى العالم!. المدرب الفرنسى كريم علوى حضر إلى مصر وأكد أن لاعبه أمامه ثلاث سنوات ليصنف عالميًا وخمس سنوات ليكون بطلاً كبيرًا!. من سمعوا المدرب الفرنسى وهو يتحدث.. أكدوا له استحالة ذلك!. هذا جزء مما كتبته فى 2007 عن هذا الشاب.. الذى نجح بالفعل بعد عامين من التدريب فى أن يشارك فى أول بطولة محترفين وبنهايتها أصبح مصنفًا فى عالم المحترفين!. الحلم المستحيل تحول إلى واقع.. حلم أن يكون بطل حكايتنا.. بطل تنس يلعب فى عالم المحترفين وبالفعل لعب أول بطولة وبات المصنف رقم 1447.. وأصبح التحدى الجديد معركة التصنيف.. ولماذا لا يكون فى المائة الكبار؟. بهذا الحلم دخل البطولة الثانية فى حياته.. وكانت فى مقدونيا.. وكانت البداية لواحدة من أغرب القصص!. فى مقدونيا.. فوجىء الشاب المصرى بأن فى حياته حكاية ثانية.. وأن الحكاية الأولى التى كنت أراها قمة التحدى وقمة العزيمة وكتبت عنها فى 2007 ما هى إلا حرف فى كلمة بجملة على سطر.. فى صفحة كبيرة كبيرة كبيرة عمرها سبع سنوات صراع بين اليقين والعزيمة والإصرار وامتحان أظنه الأصعب على الإطلاق!. حكايته الثانية لم أعرف أنا بها إلا من خمسة أيام فقط!. بدأت بمقدونيا فى 2007 فى البطولة الثانية له.. فيها وجد نفسه فى امتحان وليس بإمكان أى عاقل الاعتراض عليه.. لأنه من عند الله !. إنه المرض.. وليس واحداً إنما مجموعة أمراض.. كل واحد منها أخطر من الآخر!. سبع سنوات نضال ضد السرطان وأشياء أخرى.. ومع ذلك بقى الحلم.. حلم أن يعود بطلاً!. القصة الأغرب على الإطلاق.. سردها لى من أيام.. بطلها وبطلنا بنفسه.. الشاب أنور مصطفى الكمونى.. ليعود للوراء سنوات.. إلى ما بعد تحقيق حلمه فى أن يكون بطلاً.. إلا أن الحلم لم يستمر طويلاً.. فى ثانى بطولة أظلمت الدنيا كلها فى وجهه!. فى البطولة الثانية له كمحترف.. وقع فى الملعب مَغِشيًا عليه!. عاد إلى مصر.. وشعور بالإجهاد البالغ والضعف الشديد.. أجرى تحليل دم.. وكانت أول صدمة!. كرات الدم الحمراء فى الدم 3000 فقط والمفروض أن تكون 18 ألفًا!. المشكلة أنها فى تناقص ولو وصلت إلى 2000 يصبح فى عداد الموتى!. فى مستشفى معهد ناصر تم حجزه فى غرفة منعزلة!. الحالة بالغة الخطورة!. المناعة وصلت إلى 500 والأصل من أربعة آلاف إلى خمسة آلاف!. الصفائح الدموية 30 ألفًا من 150 ألفًا!. أخذوا عينة من النخاع والنتيجة تظهر بعد 25 يومًا!. بعد 25 يومًا رهيبة وجدوا فشلاً فى النخاع!. ممنوع كل حاجة.. لأن المناعة صفر!. ممنوع اقتراب أى إنسان.. خوفًا من أى ميكروب أو عدوى!. 90 يومًا معزولاً عن البشر!. الصمود الداخلى واليقين الهائل للشاب الذى لا يعرف المستحيل.. ربما كانا المناعة الربانية فى غياب المناعة الجسدية!. النخاع لا يستجيب ولابد من زرع نخاع عظمى جديد.. هذا ما وجده د. حسام كامل أستاذ أمراض الدم. من فضل الله أنهم وجدوا نخاع الشقيق أحمد متوافقًا مع بطلنا أنور الراقد بلا حراك.. وبدأ التجهيز للجراحة الصعبة أو العملية البالغة التعقيد!. أى جراحات فى الدنيا تحسب بالساعات وإن طالت.. إلا أن عملية زرع النخاع تستغرق 45 يومًا متواصلة.. فى ظل اشتراطات ومحاذير بالغة الشدة واليقظة من حيث التعقيم التام لكل وأى شىء!. هذا مثال مما حدث. أنور فصيلة دمه «A». الشقيق أحمد فصيلة دمه «O».. ولابد من قتل أو استئصال النخاع «A» قبل زرع النخاع «O». بدأوا فى إعطاء أنور جرعات كيماوى كبيرة للقضاء على النخاع «A» استمرت 15 يومًا إلى أن تأكدوا من أن المناعة أصبحت صفرًا.. وفى اليوم ال15 نقلوا ما تتطلبه الجراحة من نخاع الشقيق إلى أنور. بالطبع كل الإجراءات المشددة من عزل وخلافه مطبقة على الاثنين.. أنور وأحمد.. وكل الإجراءات تحت إشراف د.حسام كامل فى مستشفى معهد ناصر. النخاع الجديد يبدأ فى إنتاج كرات الدم الحمراء بعد 15 يومًا من زراعته.. وبفضل الله بدأ يعمل بعد ال15 يومًا بمعدل تفاءل به الدكتور حسام كامل.. الذى كل تركيزه على الأدوية التى تعمل على مثبطات المناعة.. لأجل ألا يحدث طرد عكسى.. أى لأجل ألا يحارب الجسم النخاع الجديد.. أو يحارب النخاع الجديد الجسم .. وعناية الله قبل كل دواء.. جعلت الأمور تسير فى سلام على مدى الفترة الحرجة بعد هذه الجراحة وهى 45 يومًا. مرت الأمور بسلام وجاء وقت الخروج من معهد ناصر والتعليمات مشددة بألا يغادر أنور المنزل لمدة 6 أشهر منعًا لأى انتكاسة.. فماذا حدث؟. أنور الكمونى اتخذ قرارا بنفسه ومع نفسه.. وكأنه هذه المرة عدو نفسه.. أو هو بالفعل فيما فعله كان أكبر خطر على نفسه!. قرار منزوع المسئولية!. ترك البيت وذهب إلى الملعب.. ربما ليطمئن أن حلمه لم يمت!. باختصار لعب تنس.. وهو فى حالة ضعف شديد لا تسمح بالحركة وليس اللعب.. وحدث ما حدث بعد أسبوعين!. حدث طرد عكسى بشكل كبير.. دخل على أثره مستشفى زايد التخصصى لمدة ثلاثة أشهر!. مشكلات كبيرة فى الجهاز الهضمى.. ارتفاع إنزيمات الكبد.. طفح جلدى.. الوزن أصبح 50 كيلوجرامًا بعد كفاح مرير لمدة 90 يومًا تم السيطرة على الطرد العكسى عن طريق الكورتيزون ومثبطات المناعة. عاد أنور الكمونى إلى منزله.. وعاوده الحنين إلى التنس.. وفعلها.. فحدث الأسوأ!. خلال لا وقت.. عادت المشكلات بصورة أكبر وأعقد!. مشكلة فى الكليتين والمشكلة الأخطر غرغرينا فى اليدين.. وكأنه مكتوب على الدكتور حسام كامل أن يُخْتَبَر فى صبره وحِلمه قبل خبرته وعلمه!. وعليه أن يحل مسلسل الطرد العكسى فى الجزء الثالث له!. الطرد العكسى الثالث.. هذه المرة ذهب بعيدًا وخلق مشكلة جديدة!. غرغرينا فى اليدين.. اليمنى واليسرى!. الدم توقف عن الوصول إلى اليدين.. اللون.. لون اليدين العادى اختفى وبدأ اللون الغامق يظهر والآلام التى لا تتوقف ولا توصف.. وكانت الصدمة بقرار كونصولتو الأطباء.. لابد من بتر اليدين فورًا وإلا تسمم الجسم بالكامل!. أنور الكمونى جلس مع د. حسام كامل وقال له: كان لازمتها إيه حرب التحدى من أجل التنس التى خضتها ولم تتحقق.. أنا عملت مجهود كبير والمرض منعنى.. نفسى أكمل!. د. حسام كمال اتخذ قرارًا بتأجيل عملية البتر!. حاول تكثيف السيولة على أمل أن يصل الدم إلى اليدين.. إلا أنه فوجئ بحدوث نزيف داخلى.. غير أن الأمور سارت بسلام!. القرار الطبى حقنة سيولة كل 12 ساعة واستمرت 6 أشهر.. اليدان خلالها مغطاة بغطاء.. لأن الألم رهيب إذا ما تعرضتا للهواء!. بعد 6 أشهر حدثت المعجزة من عند الله.. كان أنور متأكدًا من أنها ستأتى.. يقينه لم يهتز لحظة ولم يسمح للحظة أن يطل عليه اليأس برأسه!. كلتا اليدين بدأت فى العودة إلى طبيعتها ما عدا عقلة فى إصبع.. تم بترها.. خوفًا من عودة الغرغرينا!. طوال هذه الفترة.. لم تتوقف جرعات الكورتيزون حتى لا يحدث طرد عكسى يؤثر على اليدين وبسبب الكورتيزون وصل وزنه إلى 135 كيلوجرامًا!. بعد الستة أشهر علاجًا للطرد العكسى الثالث.. عادت حركة اليدين للصورة الطبيعية. الهدنة قائمة ومستتبة بين الجسم والنخاع.. وهذه إشارة طيبة لاستقرار الأمور وإمكانية بداية عملية سحب الكورتيزون!. وعاد أنور الكمونى مرة أخرى إلى حلمه أو عاد الحلم إليه!. عاد إلى الملعب.. لكن بوزن 130 كيلوجرامًا وبهشاشة عظام وتيبس مفاصل ومشكلات كثيرة!. عاد للملعب والرياضة!. بشاير العودة مؤشراتها مستحيلة!. يشعر بالإجهاد بعد 5 دقائق فقط!. فوجىء بهشاشة العظام وتيبس المفاصل وتمزق الأربطة من أى حركة!. طبيعى أن يحدث أكثر من ذلك لأنه عائد بعد سبع سنوات بين الحياة والموت!. اليقين والعزيمة والإصرار.. أعادوه!. رحلة العودة صعبة.. لكنها بالإصرار ليست مستحيلة!. حالياً وصل معدل التدريب 7 ساعات يومياً.. مثلما كان من قبل رحلة السبع سنوات مرض!. أنور الكمونى بعد انتظاره وإصراره على العودة للرياضة.. وعودته بالفعل للمران اليومى 7 ساعات.. أرسل إلى نادى إيليت الإسبانى. حكى لهم حكايته من لحظة وقوعه فى ثانى بطولة يخوضها وحتى عودته!. أرسلوا له دعوة لمدة أسبوعين.. وعندما وصل.. أصابهم الذهول. قال لهم: أريد أن أحقق حلمى.. أنا كسبت معركة مع المرض. عايز أكسب معركة التنس!. نادى إيليت قرر تحمل تكاليف تدريبه لمدة عام.. على أن يتحمل أنور الكمونى وزوجته تكاليف الإقامة.. وبدأت رحلة التنس مرة ثانية.. وبدأ أنور يحقق نتائج طيبة فى البطولات المحلية بإسبانيا.. والآن يشارك فى بطولة المستقبل الدولية للتنس التى تنظمها تونس. فى إسبانيا واحدة من منظمات علاج السرطان عرفت حكايته.. قامت بتكريمه ووجهت الدعوة له لزيارة أهم مستشفى علاج سرطان.. وهناك أحضروا عددًا من المرضى بالسرطان.. سمعوا منه معركته مع سرطان الدم.. وعرفوا منه أن الإرادة.. إرادة الشفاء تسبق أى دواء!. حدوتة عظيمة بطلها شاب عظيم اسمه أنور الكمونى.. حدوتة إرادة وتحدٍ وصمود وإصرار ويقين فى النجاح.. حتى ولو كان الأمل أبعد من أن تراه العين!. الحدوتة المعجزة عرف بها المخرج مصطفى نور والموسيقار شريف الوسيمى.. فجاء رد فعلهما على قدر الحدث!. قاما بعمل فيلم وثائقى عن أنور الكمونى.. الجزء الأخير منه تم تصويره فى إسبانيا. كل الوقائع تم تصويرها فى أماكنها الحقيقية!. الفيلم مدته ساعة واسمه «7 قرون قبل الميلاد».. ما أحلى عودة الفن إلى رسالته المنسية من سنين!. شىء رائع أن يتم توثيق وتسجيل وإظهار.. أعظم السمات التى منحها الله للإنسان.. الثقة والإرادة والعزيمة والإصرار والصمود.. وقبلها وبعدها.. اليقين وحسن الظن فى رحمة.. الرحمن الرحيم!. هذه الحدوتة هى لنا جميعاً.. لنكون على يقين بأن المستحيل وهم.. ومن لا يصدقنى أدعوه لقراءة الحكاية من أولها!. لمزيد من مقالات إبراهيم حجازى