من المقرر أن تبدأ فى جنيف أعمال «الجولة الرابعة» من محادثات الأطراف المعنية بتسوية الأزمة السورية تحت إشراف الأممالمتحدة، لكن يبدو أن التفاؤل الذى شاع خلال الأسابيع القليلة الماضية منذ انعقاد اجتماع موسكو الشهير فى 20 من ديسمبر الماضى بإشراف وضمانات روسية- تركية- إيرانية، ومن بعده اجتماعا «أستانة-1» و«أستانة-2» تحت رعاية وإشراف وضمانات هذه الدول الثلاث أيضاً أخذ يتراجع لأسباب كثيرة، أبرزها ما يمكن تسميته ب «العودة الملتبسة» لدور أمريكى جديد فى الشرق الأوسط مازال غائماً أو متردداً أو متأرجحاً مع إدارة الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب. من المعروف أن الأزمات، أياً كانت أسبابها وطبيعتها، تصل حتماً إلى تسوية طال الزمن أو قصر، بعد أن تصل الأطراف المتصارعة إلى «نقطة توازن» بين المكاسب والخسائر. واجتماع موسكو المشار إليه كان عنواناً لهذا التوازن الذى فرضته معارك حلب التى انتهت لمصلحة معسكر «روسياوإيران والنظام السورى وحزب الله» على حساب كل الأطراف الأخرى وعلى الأخص تركيا، حيث أدركت تركيا أنها الخاسر الأكبر بعد فصائل المعارضة، وأن التحالف الذى كانت ترتكز وتعتمد عليه قد تداعى. هذا التحالف الذى تداعى كان يحمل اسم «النواة الصلبة» للدول الداعمة للمعارضة السورية، وبالتحديد ووضوح الدول التى قررت أن تتدخل فى الأزمة السورية بالمال والسلاح والمقاتلين ناهيك عن الدعم السياسى والإعلامى طيلة السنوات الست الماضية وهى تضم: الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا إلى جانب تركيا وقطر والأردن والإمارات. تداعى هذه النواة كانت وراءه أسباب كثيرة أبرزها أربعة أسباب؛ أولها، العزوف الأمريكى عن التدخل العسكرى الحاسم إلى جانب المعارضة لإسقاط النظام لأسباب تخص إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، وهو العزوف الذى انعكس سلبياً على مواقف الحلفاء الأوروبيين فيما بعد كما انعكس أيضاً بشكل أكثر سلبية على الحلفاء الإقليميين وعلى الأخص تركيا. وثانيها، التدخل الروسى القوى فى الأزمة السورية عسكرياً ابتداءً من خريف 2015. هذا التدخل العسكرى الروسى بالتنسيق مع تكثيف أدوار إيران وحزب الله إلى جانب النظام فرض معادلة عسكرية جديدة تماماً ولمصلحة النظام السورى وعلى حساب فصائل المعارضة السورية، وهى المعادلة التى حسمت معالمها فى معارك حلب التى وضعت المعارضة وتركيا والدول العربية الداعمة فى طريق مسدود. السبب الثالث هو تفكك وحدة المعارضة خصوصاً بعد أن تم تصنيف عدد منها بالإرهاب وبالذات «داعش» و«جبهة النصرة». هذه الفصائل تقاتلت وقامت بعمليات تصفية متبادلة لبعضها البعض، هذه الصراعات سوف تتفاقم أكثر خلال الأشهر القادمة فى شكل صراعات دامية بين «أمراء الحرب» على نحو ما حدث فى نهاية الحرب الأفغانية. أما السبب الرابع فهو قدرة النظام السورى على الصمود وتقوية تحالفاته، وإدارة هذه التحالفات بشكل زاد من تماسك «جبهة النظام» فى مواجهة المعارضة. معارك حلب لم تكن فقط عنواناً لمعادلة «توازن عسكري» جديدة لكنها كانت أيضاً تعبيراً عن انفراط كان قد حدث فى تحالفات تركيا فى سوريا خاصة مع الولاياتالمتحدة ابتداءً من اتهامات تركية لواشنطن بالانحياز للانقلاب الفاشل، وامتداداً لتحالف واشنطن مع المعارضة الكردية السورية فى الحرب ضد «داعش»، وأمام هذا كله لم تجد تركيا سبيلاً لإنقاذ مصالحها إلا بالتوجه نحو روسيا والقبول الاضطرارى بشراكة سياسية مع إيران للتوصل إلى تسوية تؤمن لتركيا مصالحها فى سوريا وتحفظ الحد اللازم من مصالح فصائل المعارضة التى تدعمها. هذا القرار التركى الاضطرارى هو الذى قاد إلى اجتماع موسكو حيث تحولت تركيا إلى ضامن لفصائل المعارضة وتعهدت روسيا أن تكون ضامناً للنظام السورى وإيران وباقى الحلفاء للتوصل إلى وقف للاقتتال وإلى آلية للإشراف على ذلك فى محادثات أستانة الأولى والثانية تمهيداً للمحادثات الأوسع جنيف. كان التفاؤل موجوداً حتى أسبوعين تقريباً، لكنه تراجع بسبب تحولات أو إيماءات وتصريحات وردت على ألسنة عدد من كبار المسئولين فى الإدارة الأمريكية الجديدة، أعطت أملاً جديداً فى إمكانية إحياء تحالف «النواة الصلبة» أحد أهم مؤشرات التحول الأمريكى الجديد إظهار الإدارة الأمريكية عداء وحزماً ضد إيران ونوايا لتصعيد المواجهة معها، ثم التواصل مع الحلفاء الإقليميين باتصالات أجراها الرئيس ترامب مع الرئيس التركى ومع العاهل السعودي، وجاء التنازع التركى المتصاعد مع إيران فى سوريا بسبب تناقض المصالح والمواقف فى الأسابيع الأخيرة ليعيد الدفء فى العلاقات السعودية- التركية، خاصة مع انعقاد الاجتماع الأول لمجلس التنسيق السعودى التركى فى أنقرة برئاسة وزيرى الخارجية اللذين أعلنا تطابق المواقف ووجهات النظر بين البلدين فى العديد من القضايا الإقليمية خاصة السورية والعراقية، وأن إيران وحزب الله يلعبان دوراً سلبياً لعرقلة التوصل إلى حل سلمى فى سوريا، ثم الجولة الخليجية للرئيس التركى التى زار خلالها السعودية والبحرين وقطر. هذه التطورات مجتمعة غيرت جزئياً من معادلة التوازن السياسى التى فرضتها معادلة التوازن العسكرى الجديد فى سوريا وخلقت قناعات مفادها أنه بات فى الإمكان تحسين مواقف المعارضة والوصول إلى نتائج أفضل من التى تريدها موسكو وحلفاؤها، إن لم يكن إزاء مطلب إسقاط النظام وإنهاء دوره الآن الذى كان أهم مطالب معظم دول «النواة الصلبة» فيكون إزاء تقليص الدور والنفوذ الإيرانى وحزب الله فى سوريا، وهى مطالب تجد من يدعمها من أطراف أخرى تتابع عن كثب تطورات ما يحدث فى سوريا خاصة إسرائيل التى جعلت من المواجهة مع إيران عنواناً للقاء رئيس حكومتها مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى واشنطن. تطورات جديدة تضع أفق التسوية السورية مجدداً فى طريق مسدود قد يدفع إما إلى عودة التصعيد العسكرى لتحسين شروط الحل السياسى من منظور دول تحالف «النواة الصلبة»، وهذا لن يحدث دون تأكيدات أمريكية بدعم عسكرى قوى للمعارضة، أو لتغييرات فى الموقف الروسى من الأزمة السورية وهى تغييرات باتت محكومة بالخيارات الجديدة للإدارة الأمريكية مع روسيا. وهى خيارات مازالت هى الأخرى غائمة تماماً، كما هو الموقف الأمريكى من الدعم العسكرى للمعارضة السورية الذى مازال ملتبساً. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;