«نحن نسير في طريق مجهول. نسقط في حفرة ونتخيل أننا سنجد أنفسنا فى نهاية المطاف مثل أليس في بلاد العجائب»، هكذا لخص النائب المخضرم عن حزب المحافظين كين كلارك حال بريطانيا التي بدأت أول الطريق الغامض للخروج من أوروبا بكثير من الأحلام الوردية وقليل من التمحيص والتوافق. فبعد 72 ساعة من الجلسات العصيبة بعضها استمر إلى ما بعد منتصف الليل، صوت مجلس العموم البريطاني على قانون يعطي حكومة رئيسة الوزراء تيريزا ماى الضوء الأخضر لتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة وبدء طريق اللاعودة للخروج من الاتحاد الأوروبي. كان مجلس العموم منقسما قبل الجلسات، على غرار كل بريطانيا، وخرج أكثر انقساما بعدها. فالحكومة لم تقدم أى تنازلات لأحزاب المعارضة، ولم توافق على أى بند مقترح يضاف لمسودة القرار الحكومى الخاصة بتفعيل المادة 50 التى كانت مقتضبة للغاية لم يتجاوز عدد كلماتها 130 كلمة. وكما وصفها معارضون في مجلس العموم:»قائمة الطعام في أى مطعم أطول من مشروع الحكومة» لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. ورغم هذا صوت 494 نائبا فى مجلس العموم لمصلحة القرار مقابل 122 نائبا صوتوا ضده. جزء كبير من هذا يعود إلى استراتيجية تيريزا ماى التى نجحت فى إسكات معارضيها في البرلمان. فقد وضعت ماى نواب مجلس العموم في موقف صعب عندما لخصت القضية كلها بعبارة بسيطة وهى «الخروج يعني الخروج...والخيار أما أن تكون مع الديمقراطية وتقبل التصويت الشعبي وإما أن تقف ضد الديمقراطية وتعطل إجراءات الخروج من أوروبا». ومع تعطش معسكر المغادرة للبدء فورا فى إجراءات الطلاق من أوروبا وتصوير كل من يعطل ذلك المسار ك»عدو للإرادة الشعبية» وجد غالبية من النواب أنفسهم، وبعضهم مثل النائب العمالي المخضرم هيلارى بن والنائبة ديان ابيت اللذين كانا على وشك البكاء أنفسهم مضطرين للتصويت لإعطاء الحكومة الضوء الأخضر لتفعيل المادة 50 لبدء إجراءات الخروج. وفي النهاية حصلت تيريزا ماى على كل ما تريده وهو إدارة مفاوضات الخروج من أوروبا دون أى قيود أو بنود ملزمة من نواب المعارضة. إنه كما يقول معارضوها «خروج على طريقة تيريزا ماى»، خروج خشن ستخرج بموجبه بريطانيا من كل مؤسسات الإتحاد الأوروربى، بما في ذلك السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي ومحكمة العدل الأوروبية. فبرغم محاولات أحزاب العمال والأحرار الديمقراطيين والقومي الاسكتلندي وأحزاب أخرى أصغر، إضافة بنود للقانون لتأكيد دور البرلمان في مراقبة وتصحيح مسار مفاوضات الخروج من أوروبا والتأكد من أن المحصلة النهائية في مصلحة بريطانيا، فإن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، بسبب تماسك حزب المحافظين وراء تيريزا ماى، مقابل الانقسامات داخل حزب العمال أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان. فقد فشل حزب العمال في إضافة بند ينص على أن تقدم الحكومة تقريرا مفصلا كل شهرين بمسار المفاوضات مع الاتحاد الأوروبى، إذ صوت ضده 333 نائبا مقابل 284 صوتوا له. كما فشل «العمال» في تمرير بند ينص على التشاور والأخذ برأى حكومات وبرلمانات اسكتلندا وويلز وايرلندا الشمالية فى استراتيجية الخروج، إذ صوت 333 نائبا ضد البند، مقابل 276. كما رفض البرلمان بند أخر ينص على أن تلتزم الحكومة البريطانية بضمان حق الأوروبيين المقيميين في بريطانيا بالبقاء والعمل كما هم بدون انتظار التوصل للاتفاق النهائي مع الإتحاد الأوروبي بتصويت 332 نائبا ضده مقابل 290. كما فشل «العمال» في تمرير بند ينص على إعطاء البرلمان البريطاني حق التصويت على الاتفاق النهائي وارسال تيريزا ماى، إذا ما دعت الضرورة، إلى بروكسل لإعادة التفاوض على نقاط يعارضها البرلمان. أما الحزب القومى الاسكتلندي فقد فشل في إضافة بند ينص على تصويت برلمان اسكتلندا على أى اتفاق مع الإتحاد الأوروبى بمعارضة 332 نائبا مقابل 62. وفشل «الأحرار الديمقراطيين» في إضافة بند ينص على إجراء استفتاء شعبي ثان للتصويت على الاتفاق النهائي مع الاتحاد الأوروبى برفض 340 نائبا مقابل 33، وبند ينص على ضمان استمرار تمتع بريطانيا بممر للسوق الأوروبية الموحدة. فشل أحزاب المعارضة في مجلس العموم في ترك بصمتها على مشروع القرار الحكومى لبدء التحرك للخروج من أوروبا، يجعل مهمة مجلس اللوردات، الذى سينظر ويصوت على مشروع قرار الحكومة يوم 20 فبراير الجاري، صعبة جدا وحساسة. فمجلس اللوردات، غير المنتخب، نادرا ما يغير كثيرا في قرارات مجلس العموم المنتخب. وإذا ما حدث هذا ف»إننا أمام إخفاق كامل للديمقراطية» كما قال زعيم حزب الأحرار الديمقراطيين تيم فارون، الذى صوت مع كل نواب حزبه ضد قانون الحكومة. ويقول فارون:»البريطانيون صوتوا بهامش ضئيل لمصلحة الخروج من أوروبا. هذا لا يعطي الحكومة صلاحية التفاوض على خروج خشن يتضمن التضحية باستمرارنا فى السوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي قبل حتى بدء المفاوضات مع أوروبا». بكل المعايير كانت هذه أياما صعبة وتمهيدا لعواصف آتية. فمكونات الإتحاد البريطانى، اسكتلندا وويلز وايرلندا الشمالية إضافة إلى انجلترا، لديهم خلافات حادة مع الحكومة حول «الخروج على طريقة تيريزا ماى». فالحزب القومي الاسكتلندي يريد ممرا للسوق الموحدة لكن هذا يبدو مستحيلا الآن. وويلز أرادت تطمينات أن ميزانيتها لن تتأثر بالخروج لكنها لم تحصل على هذه التطمينات، وايرلندا الشمالية طلبت التزامات أن حدودها ستظل مفتوحة على أوروبا بعد الخروج لكن لم تقدم لها هذه الالتزامات. أما حزب العمال فهو في حالة انقسام ربما لم يشهد مثلها في تاريخه، داخل الحزب نفسه، وبين الحزب وبين قواعده الشعبية. فمن ناحية، يجاهد الحزب لإستعادة قواعده الجماهيرية في شمال انجلترا والتي صوتت بكثافة لصالح الخروج من الإتحاد الأوروبى وذلك بتبنى الحزب سياسات حكومة ماى لبدء اجراءات الطلاق من أوروبا بدون تعطيل، لكن هذا الموقف نفسه أدى إلى تهميش الحزب لدى الشباب وفى المدن الكبيرة الكوزموبوليتنية مثل لندن وبريتون ومانشيستر وبريستول وكامبردج وجلاسكو التى صوتت بكثافة للبقاء داخل الإتحاد الأوروبي والتى تشعر بخيبة أمل غير محدودة من إلزام جيرمي كوربن زعيم حزب العمال لنواب حزبه التصويت مع الحكومة لصالح قرار يخرج بريطانيا من كل مؤسسات الإتحاد الأوروبى. ومعضلة كوربن أن قواعد حزب العمال التقليدية منقسمة بشكل حاد. وكلما سعى لإرضاء الطبقة العمالية وأعطى دعما غير مشروط للخروج الخشن من أوروبا، كلما خسر أصوات المدن الكبيرة، والشباب الذين أتوا به زعيما لحزب العمال واليوم بدأوا ينتفضون من حوله. يدرك كوربن وحزب العمال الأزمة الهيكلية التي يمرون بها، وحاول فريق كوربن التخفيف من مرارة الوضع بقولهم إن الحكومة قدمت تنازلات من بينها تأكيدها أن البرلمان البريطانى سيناقش ويصوت على اتفاق الخروج من أوروبا قبل أن يرسل إلى البرلمان الأوروبي. لكن في نظر الكثيرين هذه ليست تنازلات، ولا تعطي البرلمان السلطات المطلوبة للتمحيص والتدقيق. وتترك البرلمان في النهاية أمام خيارين لا ثالث لهما بعد التوصل للاتفاق النهائى هما: «أقبل الاتفاق» أو «أرفضه». المفارقة أن رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون عندما قرر اجراء الاستفتاء على بقاء أو خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى كان دافعه الأول هو منع حزب المحافظين من الانشقاق على خلفية السؤال الأوروبى، وهذا ما حدث. فحزب المحافظين لم يكن متماسكا كما هو متماسك اليوم. ففى التصويت على قرار الحكومة لبدء تفعيل المادة 50، عارض نائبان من الحزب فقط وهما كين كلارك وآن سوبري قرار الحكومة. على النقيض من ذلك تحدى 52 نائبا من حزب العمال أوامر كوربن وصوتوا ضد القانون، بينما استقال أربعة من وزراء حكومة الظل بينهم كليف لويس النائب المقرب من كوربن احتجاجا على مرور القانون بدون إضافة أيا من بنود باقي الأحزاب في البرلمان. التصويت للخروج من الإتحاد الأوروبي بالنسبة للكثير من البريطانيين خطأ كبير لا يمكن التراجع عنه، لكن كان يمكن تصحيح مساره عن طريق افساح الطريق أمام البرلمان لمناقشته وتمحيصه وإضافة بنود ملزمة للحكومة، خاصة بعدما ألزمت المحكمة الدستورية العليا الحكومة الحصول على موافقة البرلمان أولا قبل التحرك لبدء إجراءات الخروج من أوروبا. وكانت مناقشات الايام الثلاثة في البرلمان فرصة ذهبية لذلك. لكن هذه الفرصة الذهبية ضاعت. ونجاح حكومة ماى فى منع إدخال أى تعديلات من المعارضة على مشروع القانون الحكومى لتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، هو انتصار لها بالتأكيد على المدى القصير. لكن المفاوضات مع الإتحاد الأوروبى ستكون طويلة وشاقة ونتائجها غير مؤكدة. وقد تندم ماى على تفردها بمسار مفاوضات واستراتيجية وأولويات الخروج. فإذا كانت النتيجة النهائية للمفاوضات على عكس ما تتمناه ستكون هى أول شخص توجه له أصابع الاتهام.