سيمكث سيد حجاب طويلا فى الوجدان الجمعي، سيختار الزاوية الأكثر وهجا ليعيش فيها، لن يحيا مثل صناع التفاؤل الكاذب، ولا المرضى بذواتهم، ولكنه سيحيا حارسا للأمل والحياة، محتفيا بالمعنى فى زمن اضطراب المعنى، سيحيا مدافعا عن القيمة فى ظل اهتزازها. سيحمل معه أشعاره ونصوصه الغنائية، وناسه الذين كتب عنهم، ستكون للصيادين حكايا جديدة، وستكون للفلاحين ليالى جديدة للحصاد، سيكتب من جديد عن الحالمين بالثورة، والمنسحقين، والمهمشين، ستكون ثمة بلاغة جديدة للمقموعين: «وينفلت من بين أيدينا الزمان/ كأنه سَحبة قوس فى أوتار كمان/ وتنفطر ليّام.. عقود كهرمان/ يتفرفط النور.. والحنان.. والأمان/ وينفلت من بين إيدينا الزمان/ الشر.. شرَّق وغرَّب.. داخل لحوشنا/ حوشوا.. لا ريح شاردة تقشقش عشوشنا/ حوشوا.. شرارة تطيش.. تشقق عروشنا/ وتغشنا المرايات.. تشوش وشوشنا/ وتهيل تراب ع الهالة والهيلمان/ وينفلت من بين إيدينا الزمان/ الغش طرطش.. رش ع الوش بُوية/ ما دريتش مين بلياتشو.. أو مين رزين/ شاب الزمان.. وشقيقى مش شكل أبويا/ شاهت وشوشنا.. تهنا بين شين وزين/ ولسه ياما وياما ح نشوف كمان». يمتلك سيد حجاب قدرة مدهشة على نحت التعبيرات العامية، والتوظيف الدلالى للاشتقاق اللفظي، واللعب على مساحات الغياب والحضور، وتقاطعات الواقع والمجاز، ويحضر الجناس بأنواعه بقوة فى نصوصه وأشعاره الغنائية، ويستفيد سيد حجاب كثيرا من حمولات الجناس الإيقاعية والدلالية، ويمارس لعبا مدهشا مع الإيقاع، ويجعله فى خدمة المعنى: » أحلامى تصلب لى ضهري/ ويروق ويصفى لى دهري/ ويلالى زهري.. وجواهري/ لكل ناسي.. وليّا/ يا دنيا مهما تُغري/ غيري.. مسيرك تُمري/ وبعد مُرّى.. تُسرّى/ نفسى العفيفة الغنية«. كان الإيقاع تابعا للمعنى فى نصوص سيد حجاب الشعرية والغنائية، مثلما كانت الصورة الشعرية تحمل طاقة تخييل طازجة، عبر جدل الحقيقة والخيال، حيث تضع قدما فى المتخيل، وأخرى فى الواقع، ففى شارة النهاية لمسلسل الشهد والدموع يكتب سيد حجاب: «نفس الشموس بتبوس على روسنا/ نفس التراب يحضن خطاوينا/ طب ليه بنجرى ونهرى فى نفوسنا/ وليه نعيش ناكل فى بعضينا/ آدى الحقوق وآدى اللى طالبينها/ والحق تاه فى الباطل البطال/ وقلوبنا تاهت عن محبينها/ ونجومنا عالية بعيدة ما تنطال». تتسم نصوص سيد حجاب بروح ثورية عارمة، تنبيء عن كتابة لم تهرب، ولم تهادن، كما بدا موقف حجاب الجمالى متسقا مع انحيازه الفكري، وحركته فى الواقع، فكان نموذجا للمثقف العضوى بحق، والأهم أنه مسكون بروح الشعر حين تجابه القبح والزيف والاستبداد والرجعية وتنتصر للحرية والكرامة والعدل، منحازة إلى كل المقولات الكبرى فى تكريسها كل ما هو حر وإنسانى ونبيل وتقدمي: «جينا الحياة زى النبات أبرياء/ لا رضعنا كدب ولا اتفطمنا برياء/ طب ليه رمانا السيف على الزيف/ وكيف نواجهه غير بالصدق والكبرياء/عيش يا ابن آدم بكر زى الشجر/ موت و انت واقف زيه فى مطرحك/ ولا تنحنى لمخلوق بشر أو حجر/ و شب فوق مهما الزمان جرّحك». ومنذ ديوانه الأول «صياد وجنية» فى العام 1964، كان سيد حجاب قد حدد الجغرافيا الشعرية التى ينطلق منها، والعوالم التى يتوخاها، فكان اصطياده المستمر لذلك المعنى الهارب حتى وهو يكتب عن أكثر الأشياء ألفة، فكان يكتب عن ناسنا وحيواتنا المتناقضة، وأوجاعنا المستمرة، ومآسينا التى لا تتوقف، وبهجاتنا القليلة والعابرة بروح جديدة، نبيلة ومُحلقة. كانت الموسيقا الملحمية لميشيل المصرى والحاضرة فى شارة البداية لمسلسل «ليالى الحلمية» قادرة تماما على احتواء أشعار سيد حجاب الشجية والأسيانة والباحثة عن جوهر الحياة/ جوهر العالم: «منين بييجى الشجن.. من اختلاف الزمن/ ومنين بييجى الهوى.. من ائتلاف الهوى/ ومنين بييجى السواد.. من الطمع والعناد/ ومنين بيجى الرضا .. من الإيمان بالقضا/ من انكسار الروح فى دوح الوطن/ ييجى احتضار الشوق فى سجن البدن/ من اختمار الحلم ييجى النهار/ يعود غريب الدار ل أهل وسكن». إنه نفس الفعل الموسيقى المدهش الذى صنعته موسيقا عمار الشريعى وياسر عبدالرحمن فى حمل نصوص سيد حجاب إلينا، عبر أصوات فاتنة مثل المطربين على الحجار ومحمد الحلو. كان ثمة وجدان جديد يتشكل عبر نصوص سيد حجاب الغنائية، وكانت الأغنية تحمل دورا دلاليا وجماليا، وتنحاز إلى المعنى فى مواجهة اللامعنى، وكانت الثمانينيات والتسعينيات مساحة زمنية جديدة لسياق جديد من التلقي، صار بطله تلك الأغنية التى تبدأ بها المسلسلات الدرامية أو تنتهي، وكان سيد حجاب فارسا حقيقيا فى هذا المضمار، وصانعا جديدا لذلك الوجدان العام. وبعد.. لم يكن سيد حجاب مجرد حلقة مركزية من حلقات شعر العامية، خاصة أن حجاب كان يدرك ما صنعه الآباء الكبار: يونس القاضى وبيرم التونسى وبديع خيري، أصحاب النصوص التأسيسية المنحازة صوب تلمس عناصر الخلل الموجودة فى المجتمع، ويثمن صنيعهم، مثلما أفاد من الشاعرين الكبيرين: فؤاد حداد وصلاح جاهين، اللذين دفعا بشعر العامية إلى مغامرة رحبة، وكان سيد حجاب ومعه أيضا الراحل الكبير عبدالرحمن الأبنودى تعبيرا جماليا عن روح مصر العفية والنابضة. كان سيد حجاب وسيظل معنى نبيلا وفريدا فى الضمير العام والوجدان المصرى والعربي، شاعرا ومثقفا ومدافعا عن الجمال والحرية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;