المتطرف ليس من نوعية أخرى من البشر، بل هو نتاج مجتمع بكل ما يحمله من مشكلات. ورغم ذلك، لا يزال التعامل مع ظاهرة التطرف بالأحاديث الفضفاضة العامة دون الركون إلى البحث الميداني لاستخلاص نتائج «حديثة» يمكن الاعتماد عليها. هذه هي إحدى الملاحظات التي أثيرت، وثار حولها نقاش واسع في مؤتمر «العالم ينتفض: متحدون في مواجهة التطرف» الذي اختتم أعماله في مكتبة الإسكندرية أمس الأول. ومن الطبيعي أن تثار أسئلة من قبيل: لماذا يتجه بعض الشباب إلى التطرف؟ هل هناك أسباب اقتصادية واجتماعية تدفعهم إلى ذلك؟ هل التعليم له دور؟ هل للتنشئة الأسرية علاقة بنزوع البعض نحو التطرف؟ وغيرها من الأسئلة المهمة في هذا الخصوص. ويؤدي الوصول إلى اجابات عن هذه الأسئلة إلى وضع سياسات عامة قادرة على مجابهة المشكلة، والتخلص من التفسيرات الفضفاضة الواسعة التي باتت تصلح لتفسير أي ظاهرة سلبية في المجتمع، ويعجز صانع القرار نتيجة لذلك عن وضع سياسات عامة مناسبة يمكن التعويل عليها في حل المشكلة أو حتى قياس نتائجها. هناك دراسة مهمة أصدرها مؤخرا البنك الدولي بعنوان «الاستيعاب الاقتصادي والاجتماعي لمنع التطرف العنيف» لجأت إلى أساليب البحث الميداني في تحديد أسباب ما يٌطلق عليه التطرف العنيف- وهي تسمية مثيرة للالتباس- لأن التطرف كله عنيف سواء حمل صاحبه السلاح أو اكتفي بترويج فكر العنف. شملت الدراسة إجراء مقابلات ميدانية مع مجندين في تنظيم «داعش» في سوريا، وخلصت إلى أن «المجندين» يأتون من مختلف بقاع العالم، ولكن غالبيتهم من خمس دول في المنطقة هي تونس، السعودية، المغرب، تركيا، مصر. ومن خارج المحيط العربي أو الشرق أوسطي تأتي دول أخرى يأتي منها المجندون هي روسيا وفرنسا وألمانيا. وفي حين يبلغ متوسط عمر المجند سبعة وعشرين عاما بشكل عام، ينخفض متوسط السن في حالة المجندين العرب إلى أثنين وعشرين عاما، ويرتفع في حالة المجندين الاجانب إلى ثلاثة وثلاثين عاما. الملفت أن من بين الذين ينخرطون في تنظيم «داعش» حصل ما يقرب من الثلثين على التعليم الثانوي أو الجامعي، بينما تقل نسبة الأميين إلى نحو اثنين بالمائة فقط. ويلاحظ أن المجندين العرب والشرق أوسطيين عموما أكثر تعليما من نظرائهم الذين يأتون من دول أخرى سواء في أوروبا أو آسيا. هذه النتائج التي تمخض عنها بحث ميداني في مجال التطرف تلفت الانتباه إلى قضية أساسية مفادها أن المتطرف ليس هو الجاهل أو الفقير في التعليم، ولكنه قد يكون متعلما، وحاصلا على شهادة جامعية لكنه لجأ إلى التطرف بفعل التهميش الاقتصادي والاجتماعي. القضية إذن ليست الفقر فقط، ولكن الامراض الاجتماعية التي تلازم الفقر، وأهمها الشعور بالتهميش، وعدم القدرة على تغيير الواقع، والإحباط من كم التناقضات الشديدة في المجتمع، مما يدفع الشخص المتعلم الذي يعيش خارج سوق العمل إلى اعتناق الفكر المتطرف أو الارتماء في حضن جماعات مرجعية متطرفة توفر له المعنى، والغاية، والهدف، وتسد احتياجاته الاجتماعية، وتسبغ نظرته الحانقة القاسية على المجتمع برداء تكفيري، وبردة مستقاة من فكر ديني منحرف. خلصت الدراسة إلى أن مشكلة البطالة بين المتعلمين جوهرية في هذا الصدد، والتصدي الجاد لها لا يساعد فقط على توفير دخل للشباب، ولكن أيضا يحول دون انخراطهم في عضوية تنظيمات متطرفة. تلفت هذه الدراسة- بصرف النظر عن دقة نتائجها- الانتباه إلى أن العلاقة بين ظاهرة التطرف والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية تحتاج دائما إلى بحوث ميدانية تحمل إلينا معلومات ومؤشرات نستعين بها في وضع السياسات العامة، وهو ما يؤكد حقيقة طالما تحدثنا عنها أن المتطرفين ليسوا من كوكب آخر، وهم ليسوا كائنات فضائية، لكنهم نتاج بيئة اجتماعية محملة بأمراض اقتصادية واجتماعية وثقافية. البعض توافرت لديه مناعة، واستطاع أن يواجه الأمراض الاجتماعية والاقتصادية، والبعض الآخر لم تتوافر لديه هذه المناعة، ولاسيما إذا اجتمعت عدة عوامل ضاغطة في آن واحد بمعنى أن يكون الشخص متعلما، متعطلا عن العمل، يواجه مشكلات اقتصادية، ويحيط به التهميش الاجتماعي من كل جانب، ويشعر بأنه غير قادر على مواجهة الحياة أو تغيير واقعه مما يدفعه إلى الالتحاق بجماعة متطرفة. من هنا فإن القضية الأساسية التي ينبغي أن نتوقف أمامها هي «التهميش» وليس «الفقر»، لأن هناك فقراء كثيرين، بل غالبية الفقراء، لكنهم ليسوا متطرفين، لأن التطرف نتاج الشعور بالتهميش في المقام الأول. هنا تأتي أهمية السياسات العامة التي تتجه إلى تعميق مشاركة الأفراد في شئون المجتمع من خلال مشروعات التنمية، أو المشاركة في وضع الميزانية العامة، أو تقييم المشروعات العامة، وغيرها، وقد أخذ العديد من الدول بهذه التجارب سواء في إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية، واستطاعت أن تحدث تغييرا كبيرا في نوعية الحياة لمواطنيها في فترة زمنية قصيرة. هذه الدول منذ سنوات كانت تحتل – من حيث المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في التنمية- مكانا أقل مقارنة بالمجتمع المصري. هل أدركنا إلى أي حد نحن متأخرون؟ لمزيد من مقالات د. سامح فوزى ;