أصارحكم القول بأن الشك كان يراودنى حين قالوا انه جرى اسقاط طائرتنا بدون اذن من جانب القيادة العليا لتركيا، وان هناك من كان يريد النيل من العلاقات الروسية التركية. لكن الان وبعد اغتيال احد رجال الامن الخاص لسفيرنا فاننى بصدد تغيير آرائى». هذا ما اعترف به الرئيس فلاديمير بوتين فى مؤتمره الصحفى السنوى الاخير يوم الجمعة الماضى، فى معرض تعليقه على جريمة اغتيال السفير الروسى اندريه كارلوف فى انقرة. وكان بوتين قد أشار ايضا لدى تناوله لملابسات حادث الاغتيال، الى اختراق «عناصر تخريبية» لاجهزة الامن والجيش فى تركيا، وهو ما تناولته معظم التقارير والتحقيقات الصحفية والاعلامية خلال الايام القليلة الماضية. واذا اضفنا الى كل ذلك، ما سبق وقاله بوتين فور ابلاغه بتقارير مرءوسيه حول حادث الاغتيال، والتى تركزت فى معظمها حول ان الجريمة تستهدف الاضرار بالعلاقات الروسية التركية، وتقويض ما يجرى من محاولات للتنسيق بين البلدين فى مجال مكافحة الارهاب، فاننا نكون أمام «تغير نوعي» لمواقف موسكو تجاه تركيا التى تعلنها اليوم «شريكا استراتيجيا» تثق فيه وتتعاون معه فى الكثير من ملفات الارهاب والازمة السورية، وهو ما اكده بوتين ووزير خارجيته سيرجى لافروف اكثر من مرة خلال الايام القليلة الماضية، ولا سيما بعد نجاح عملية تحرير حلب بمساعدة مباشرة من جانب تركيا وايران. ومع ذلك فان ما جرى من تطورات واجتماعات فى موسكو وانقرة خلال الايام التى أعقبت حادث الاغتيال، يقول ان موسكو بصدد اتخاذ ما يلزم من اجل تامين بعثاتها الدبلوماسية ليس فى تركيا وحدها، بل وفى مختلف البلدان الاجنبية، تنفيذا لما اصدره بوتين من تعليمات الى اجهزة الامن والمخابرات الروسية. وبغض النظر عن تباين التصريحات من جانب المسئولين الروس والاتراك حول مدى قبول «التاكيدات» التى تقول بمسئولية المعارض التركى فتح الله جولن الهارب المقيم فى الولايات المتحدة، فان هناك من المؤشرات ما يقول ان الجانبين يواصلان التنسيق فيما بينهما، من اجل تقصى الحقائق ودراسة كل ملابسات الحادث سعيا وراء الكشف عن كل خيوط الجريمة والجهات التى يمكن ان تكون وراءها. وكانت الاوساط السياسية والاجتماعية فى الداخل والخارج قد توقفت بالكثير من الدهشة عند عدد من المشاهد التى تناقلتها اجهزة الاعلام المرئية وكانت مثار تساؤلات كثيرة، ومنها ما يتعلق بشخصية القاتل، وكيفية تسلله بمثل هذه السهولة الى صدارة المشهد، ووصوله الى مقربة مباشرة من السفير الراحل. وقد اسهبت وسائل الاعلام المحلية والاجنبية فى سرد تفاصيل الحادث، واستعراض جوانب السيرة الذاتية لمدبر الجريمة، ومنها ما يتعلق بانتمائه الى اجهزة الحراسات الرسمية، وبانه سبق وشارك فى حراسة الرئيس التركى رجب طيب اردوغان، وايضا مقر السفارة الروسية فى انقرة. وتلك كلها تفاصيل تعكف اجهزة التحقيقات الروسية والتركية على دراسة دقائقها فى سرية تامة، وتحت اشراف مباشر من جانب قيادات البلدين، فى محاولة جادة لفك طلاسم هذه الجريمة. وقد اعاد حادث اغتيال السفير اندريه كارلوف فى انقرة الى الاذهان الكثير من حوادث الاغتيالات التى راح ضحيتها الكثيرون من الملوك، ورؤساء البلدان والحكومات وممثليهم فى الداخل والخارج، ومنها ما كان سببا فى اشتعال الحرب العالمية الاولى فى اعقاب اغتيال ولى عهد النمسا فرانز فرديناند فى سراييفو على يد متطرف قومى صربي. ولعله من المفارقات التى تثير اعلى درجات الدهشة، ان موسكو فقدت خلال الاسبوع الماضى سفيرها فى تركيا التى كانت قطعت معها شوطا طويلا بالغ الاهمية على صعيد التقارب والتنسيق فى مجال مكافحة الارهاب وتحرير حلب السورية، الى جانب ما تحقق من طفرات فى التعاون التجارى والاقتصادى بين البلدين، فيما كانت قد فقدت فى السابق سفيرها فى طهران التى كانت ولا تزال ومنذ عقود طويلة، محسوبة عليها واحدا من اهم حلفائها فى الساحتين الاقليمية والدولية. وتقول الأدبيات التاريخية ان روسيا الامبراطورية كانت ايضا فقدت سفيرها فى طهران الكسندر جريبويدوف فى عام 1829 فى ظروف بالغة المأساوية، حيث داهمت الجماهير الغاضبة مسكنه فى طهران وقامت بذبحه مع العشرات من افراد حراسته، بسبب ايوائه لارمنيات هربن من حريم البلاط الامبراطور الايرانى. وبمناسبة الاغتيالات السياسية التى راح ضحيتها عدد من ابرز رجال الدبلوماسية الروسية والسوفيتية، يذكر التاريخ ان موسكو الشيوعية فقدت بيتر فويكوف سفيرها فى وارسو والذى كان احد قيادات ثورة اكتوبر الاشتركية فى عام 1917، حيث اطلق عليه النار فى محطة قطارات وارسو فى 7 يونيو 1927 لدى انتظاره لدبلوماسيين سوفييت قادمين من لندن بعد قطع العلاقات معها. وهناك حادث آخر كتبت عنه قناة «روسيا اليوم» على موقعها الالكترونى، ويتعلق باغتيال «فاتسلاف فوروفسك» ممثل روسيا السوفيتية الاتحادية الاشتراكية لدى إيطاليا، والذى قالت انه أصيب مع اثنين من مساعديه، على يد ضابط سابق فى الحرس الأبيض المعادى للثورة البلشفية. وكانت الجريمة وقعت فى مطعم أحد فنادق مدينة لوزان السويسرية فى 10 مايو 1923. وفى ذات السياق شهد الامس القريب، الاعتداء على سفيرى موسكو فى كل من كينياوقطر. ففى كينيا هاجم مجهولان السفير الروسى فاليرى يجوشكين فى 20 أغسطس 2006 حيث طعنه أحدهما بسكين فى ظهره ما اصابه بجروح خطيرة، إلا أن الاطباء تمكنوا من إنقاذ حياته ليعود الى عمله بعد علاجه الذى استغرق الكثير من الوقت. اما الحادث الثانى فقد وقع فى مطار الدوحة فى 29 نوفمبر 2011 حيث تعرض فلاديمير تيتارينكو سفير روسيا فى قطر واثنان من مساعديه لاعتداء من جانب رجال الامن القطريين بسبب اصراره على عدم فتح الحقيبة الدبلوماسية، وما كان سببا فى سحب السفير وتوتر العلاقات لفترة طويلة كادت تعصف بالعلاقات بين البلدين. ومن حوادث اغتيالات السفراء الاجانب فى الخارج، ما راح ضحيتها سفراء الولايات المتحدة ومصر والعربية السعودية والامارات العربية. ولعل اشهر حوادث الاغتيالات التى عرفها التاريخ المصري، يمكن ان يكون حادث اغتيال كمال الدين صلاح شهيد الدبلوماسية المصرية فى الصومال فى عام 1957،على يدى صومالى وجه اليه العديد من الطعنات اصابته فى مقتل. فى بغداد اختطف مجهولون الدكتور ايهاب الشريف سفير مصر فى العراق بعد فترة وجيزة من بداية عمله هناك، حيث جرى الاعلان لاحقا عن قتله من جانب »جماعة ابى مصعب الزرقاوي« فى يوليو 2005. وفى ليبيا هاجمت الجماهير الليبية الغاضبة مقر القنصلية الامريكية فى بنغازى فى سبتمبر 2012 حيث قامت بقتل السفير الامريكى جون كريستوفر ستيفنز وثلاثة من الدبلوماسيين الأمريكيين. وتقول مصادر امريكية ان هذا الحادث هو الخامس من نوعه فى تاريخ الدبلوماسية الأمريكية. وتلك كلها جرائم تقول بضرورة العمل من اجل اضطلاع كل البلدان بواجبها تجاه حماية ممثلى البعثات الدبلوماسية الاجنبية على اراضيها وبما يكفل لهم اداء واجباتهم بموجب اتفاقية فيينا الموقعة فى عام 1961، الى جانب حتمية تضافر جهود المجتمع الدولى من اجل القضاء على الارهاب الدولى بوصفه اهم واخطر تحديات العصر.