نفس الفتى لابد من زوالها الأيام والدنيا سريع زوالها تطوى عزيز ثم تطوى أرذالها قولوا وا خراب الدار عقب اعتدالها! آخر كلمات الفارس الذى ظل على جواده حتى غروب الروح، بطعنة رمح غادرة، لا بضربة سيف صحيحة، موت لا تشبهه حياة، لرجل لم يملك خصومه إلا أن يمجدوه. رجل أوقف وهو فى سن 114 جحافل الهلاليين. فارسٌ بأمة: جالس على الكرسى خليفة الغندور/ راجل منظره يهيب الأسوده/ بطل المغارب نعم وعنده شعور/ ياما فيه ناس حسودة وحقودة. «فاكر نفسك الزناتى خليفة».. عادة ما تتردد هذه الجملة فى أنحاء مصر جنوبا أو شمالا. فمن هو الزناتي؟. يقول الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي: «هو أفرس الفرسان، وهو عندى بطل السيرة الهلالية الحقيقي». ويقول عنه الشيخ «جابر أبو حسين»: «أتى له بطل الفرسان.. يسمى الزناتى خليفة». ويمدحه السلطان حسن: «سلامتك يا أبو قدر عالي»، ويقول عنه «أبوزيد الهلالي»: «اخلع الحربة من عين السبع يا ديب/ دا رجل ملو عين الأعادي/ خليك راجل حكمة وأديب/ نعم بالطعن ربى أرادي/ إنما البهدلة فى نجعنا عار/ دا راجل كريم وفيه الكفاية/ دا راجل قاد فى جسمنا نار/ متى نشمت فيه ولا هو من الهفايا». «رجل وحيد فى عالم قد فسد» كما كتب عنه الدكتور شمس الحجاجي: «هو العالم الحافظ للقرآن، وحياته مرهونة بالدفاع عن بلده كما تقول شرائع السابقين، يستيقظ ليصلى الفجر، ثم يعمر الميدان أولا منتظرًا من تخرجه له القرعة، ولا يقف خلف جنوده بل ينتصب وحده كجبل أشم أو كحصن منيع، فى عالم أفسده الثراء، فالعلَّام ابن عمه يريد تسليم تونس، والوهيدى معبد يريد أن يتزوج ابنته عزيزة. هنا وقف الزناتى صارخاً فى وجه جحافل الهلالية وانتكاسات أهله: «ابن مدكور بن شمخ بن حمير/ يقرا كلام الله واحنا صغارها». تأتى جحافل الهلالية لتجتاح تونس بأبطالها الذين عرفهم الناس وألفوهم وفخروا بأفعالهم، حتى الجازية أخت السلطان حسن يأخذونها من زوجها، ويقف الزناتى وحيدًا ليدافع عن بلاده؛ فكأنه يردد: «الروم حيث تميل، يقاوم طعنات ثلاث: العدا، وخيانة الأهل، وكبر السن: ألا جولى فى سن تمانين/بعد الكب ما فاح من عيوني/ ولاد عمى الدنيين/ أشور شورتى يخالفوني» فهل استدعى الراوى الشعبى سيرة الإمام على وهو يصرخ فى جنوده: «فَيَا عَجَباً عَجَباً وَ اَللَّهِ يُمِيتُ اَلْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ اَلْهَمَّ مِنَ اِجْتِمَاعِ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَ لاَ تُغِيرُونَ وَ تُغْزَوْنَ وَ لاَ تَغْزُونَ وَ يُعْصَى اَللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِى أَيَّامِ اَلْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ اَلْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا اَلْحَرُّ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِى اَلشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ اَلْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا». لماذا أتى الهلالية إلى تونس؟ يقولون إن الزناتى انقض على جبر القريشى وأخذ منه الملك، ويلمح تاريخيون إلى أنهم تحركوا بإيعاز من الفاطميين الشيعة الذين يحكمون مصر، يقولون إن فى الرحلة الاستكشافية التى قادها أبوزيد، أسر أبناء أخته «يونس ومرعى ويحيى»، وهى رواية أهل الدلتا (فتحى سليمان والسيد حواس وعلى الوهيدي). أما رواية الصعيد فتقول إن يونس بقى لدى عزيزة، أما يحيى ومرعى فماتا أحدهما بلدغة ثعبان، والثانى متأثرًا بجراحه من عبيد تونس. قدر ومكتوب أن يقتل الزناتي، يعرفه العلام والوهيدى وسعدى، وأبو زيد والسلطان حسن والجازية ودياب بن غانم.. لكنه وحده يخرج لموته مناديا: أين المقاتلين؟ عرفه أهله فقرر بعضهم الاستسلام، وعرفه الهلالية فقرروا تقسيم الممالك والمقاتل: «تملك مداينها وتقتل فوارسها/ أما الزناتى فتتركه للديب»، والديب هو دياب بن غانم الذى تحتفظ له السيرة بصفات تنزع عنه الفروسية والرجولة رغم قوته. حين وقف الزناتى انقلب كل شيء رأساً على عقب، فلا يصبح هو البطل المضاد أو البطل الشرير، بل يختفى بطل الهلالية أبوزيد من المواجهة ويبدأ فى تدبير مقتل الزناتي، ولا تعدم السيرة أن تصنع مواجهة بين الزناتى وأبوزيد ينتصر فيها الأخير لكنه لا يقتله، ويتوارى عن صهوة الجياد فيما يخرج الزناتى بطلا أسطوريا يحمل قدره وحلمه. «ضدان لما استُجمِعا حسنا/ والحسن يظهر حسنه الضدُ» هكذا كانت العلاقة بين الزناتى وأبوزيد، فالزناتى يحبه كابنه ويتمنى لو كان معه ليعارك الدنيا كلها: «أنا أحب أبوزيد يا بتى وأكرهه/ كما الناقة متحبش فراق عيالها/أحب أبوزيد يكون أخويا ولا ابن عمي/ كنت أقسم الدنيا وأعارك قبالها» فيما يراه أبوزيد بطلا حرًّا:«يا عم خليفة صباح الخير/ يا قارى حروف الهجايه/ يا غندور يا بو تنازين/ يا حامى حمى الصبايا/ ياللى حاميها شمال ويمين/ صباح الخير يا زعيم الغروب/ يللى فى الحرب عمرك ما تصبح مغلوب». من هنا يصبح عصيًّا على السيرة أن تجعل أبا زيد يقتل الزناتي، وإلا تشوهت فروسيته؛ فهذا شيخ طاعن فى السن تجاوز المائة بأربع سنوات فى رواية، واقترب منها بست سنوات فى رواية أخرى، وأربعة عشر عامًا على صهوة جواده، دون ابتسامة، أما نومه فمملوء بأحلام الدفاع عن مدينته الحلم تونس الخضراء.. لا يقتل أبوزيد الزناتى خليفة كى لا يشب صراع دائم بين الحفدة من أسيوط حتى جنوبى قنا.. لن يقتل الزناتى إلا أحد أبناء عمومته, فكلاهما زغبي.. لكن من يجتمع فيه القرب والخيانة معًا.إنه دياب بن غانم، فارس بلا قلب، يبقر بطون الحوامل، يمثل بضحاياه، يشعر دائمًا أنه أفضل من أبى زيد وأحق من السلطان حسن.. وسيكون له بعد الزناتى أن يثبت أنه ذئب هجام؛ يستولى على عرش تونس ويجبر السلطان حسن والهلالية على دخولها تحت رمحها، ومن لا يعبر تحته يُقتل، ثم سيقتل السلطان حسن وفى رواية سيقتل أبو زيد نفسه. أربعة عشر عامًا والزناتى يخرج أولا، ينتظر من تخرجه القرعة؛ فيكون قتال يطول أو يقصر لا فرق فالزناتى ينتصر، يرى البعض لأن أمه جِنِيَّة وهبته صفات خارقة: «أبو ضلع واحد كما اللوح/ جرحه يطيب ع الندى» لكن الحقيقة أن الزناتى يواجه اختبارات صعبة يومية، ينزل الميدان كأنها المرة الأخيرة، وما إن تغرب الشمس حتى يعود ليرى أحوال بلده ونسائها وشيوخها. يتمكن عامر الخفاجى من جرح الزناتى الذى يكابر وينزل الميدان فى اليوم التالي: «زناتى قال أين المقاتلين» ووافق على خدعة تمكنه من الانتصار على أمير العراق الخفاجى الفارس حافظ المنهاج الذى تورط فى معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، والذى دفعته الجازية ليكون مقتله دافعًا لإثارة صديقه دياب، يتراجع الزناتى بعد أن يلقى على الخفاجى «حملة رهيفة» الذى يتفاداها ويندفع خلف الزناتى ويظهر فجأة من خلفه مطاوع وعشرة من الشبان فيطعنه فى ضلعه الشمال ليسقط صريعًا، وهنا يعود الزناتى صارخًا: «العز لعرب الزناتة.. لآل حمير» حتى لحظة القضاء على أصعب الخصوم فالنصر ليس للفرد بل للجماعة. يأتى دياب بن غانم بعد أن يذل قادة الهلالية باستعطافه والنزول على شروطه – فالزناتى قتل تسعين بطلاً منهم - وينزل واثقًا من النصر محكومًا بنبوءة: «دا اللى عليه الرمل قال» لكن الزناتى يقاتل ويستطيع وفق روايات جرح دياب بن غانم فيما يدفع دياب للشك فى كذب الرمل؛ فالأطباء عاجزون عن علاج دياب من الجرح المهلك: «والطباية تيجى وتروح وسط عرب الجمال/ أمال ياك الرمل علينا كداب/ما هو دا الأمير دياب/ اللى يكتل الزناتى خليفة» فيتدخل أبوزيد ويذهب ليحضر خرزة اليهودى سمعان فهى الدواء الوحيد، وتبقى عقبة القتال فى السراديب التى تعود عليها فرس الزناتى لذلك يقوم أبو زيد بتدريب فرس دياب حتى يتقنها. هى اللحظة كما قالت النبوءة يجد الزناتى خصمه واقفًا على فرسه.. سبقه إلى الميدان.. وحين يسأل الزناتى عن هذا يجيب دياب: «النهاردا اللى عليه الرمل قال.. رايح أغدرك يا زناتي» هنا يرد الزناتى بثقة: «والله انت كداب والرمل كداب/ ولا تعرف اللى يصيبك/ هل عندك بموتى أدلة؟». وتشتعل الحرب ثانية لمدة يومين هذه المرة، ويستطيع دياب بعد أن تشاغل فرسه جواد الزاناتى أن يتمكن من طعنه فى عينه. يسقط الزناتى لا عن ضعف ولا عن قوة خصم، بل بتضافر أسباب عديدة على مدى السيرة، فمكايد أبى زيد لم تنتهِ، وخيانات أبناء عمومته لم تتوقف، يسقط الزناتى فيحاول سادة الهلالية أن يخففوا مما فعله؛ فيندفع أبوزيد مبعدًا رمح دياب عن عين الزناتى رافضًا التمثيل بجسده: «ابعد الحربة عن عين الراجل يا ديب» ويحتضنه السلطان حسن، وتدعو له الجازية بالسلامة، لكن الزناتى يحزن لهذا القرب الموجع: «من قلة الحنا وقعنا ع الجفا/ وخدنا من دار العدو حبيب» ويقول: «دياب يطعنى وحسن يلمني/ وأبو زيد يعمل لى للجروح طبيب/ شكيت اللى جرى لي/دمعى نزل منى صبيب» لهم فى اللحظات الأخيرة إن قتله جاء بتدبير أبوزيد لا برمح دياب، وأنهم لن يهنأوا بأرض اغتصبوها: «يا بنى هلال اسمعوا مقالي/ ياما الزمان يورى عجيب/ اعطوا شكرانكم للهلالى أبو زيد/ اوعوا تقولوا سبع الغرب قتله ديب/ وأنا ما قتلنى إلا الهلالى سلامة/حرمه ما جابت ولد زى الأمير لأبوزيد» إن اللحظة الأخيرة والكلمات الأخيرة لا تتحدث إلا عن فراق الوطن الصعب: «تملى بها يا أبو على بعد ناظري/ طابت لكم بس الفراق صعيب/مادام سبعها يا أبوزيد منها رحل/ أقسم بربى الفراق صعيب/ أمرى لمن أنشأ الخلايق من عدم/ إلهى تعالى حاضر وليس يغيب». يقال إن الجازية وجدته فى موته فارسا مهابا كأنه فى ريعان الشباب ووسط الفتوة، حتى إنها أخفت وجهها عند رؤيته وهى التى لم تكن تتحجب من رجل مهما كان قدره! ويقال إن لعنة الزناتى طاردت كل من هاجموه فقتلوا جميعًا شر قتلة. «أنا البطل الزناتي/ أنا النسا يغنوا وراي/ للوطن بايع حياتي». فسلام على روحك الطاهرة يا زناتي.