فى أوقات الأزمات المرتبكة والمراوغة عادة ما يكون اللجوء إلى التاريخ كملاذ للفهم والوعى والتدبر والحصول على إجابات مطمئنة للتساؤلات هو السبيل الأفضل، لكن فى الحالة التى نحن بصددها قد لا يكفى التاريخ وحده للوصول إلى مثل تلك الإجابات المأمولة، وهنا لا يكون لنا من مناص سوى الارتكان إلى التحليل السياسى ومنهج الاستنباط ربما تتجلى بعض جوانب الغموض الذى نراه الآن فى تفسير العودة البريطانية «المحمودة» إلى الخليج، وهى العودة المتزامنة مع الخروج الأمريكى من الخليج أيضاً. هذه العودة البريطانية إلى الخليج التى تجلت فى حضور رئيسة الحكومة البريطانية السيدة «تيريزا ماي» لأعمال القمة الدورية السابعة والثلاثين لمجلس التعاون الخليجى التى استضافتها مملكة البحرين (6- 7/ ديسمبر 2016) تعيدنا خمسة وأربعين عاماً إلى الوراء بالتمام والكمال، عندما نفذت المملكة البريطانية فى ديسمبر 1971 القرار الذى أعلنته بالانسحاب من الخليج. ففى عام 1968 بادر هارولد ويلسون رئيس الحكومة البريطانية حينئذ بإعلان قرار عزم بلاده «الانسحاب من شرق السويس» فى غضون ثلاثة أعوام. لم يكن مصطلح الخليج مستعملاً فى تلك الأيام، وكانت منطقة الخليج العربى تُعرف فى السياسة الدولية وخاصة البريطانية بأنها «منطقة شرق السويس» أى شرق قناة السويس. وقتها برر هارولد ويلسون قرار الانسحاب البريطانى من شرق السويس بأن المملكة المتحدة لم تعد قادرة على تحمل أعباء النفقات العسكرية لقواتها المرابطة فى تلك المنطقة. لم يكن للولايات المتحدةالأمريكية أى وجود عسكرى فى الجزيرة العربية كلها فى ذلك الوقت باستثناء القاعدة العسكرية فى الظهران بالمملكة العربية السعودية التى كانت مخصصة للدفاع عن شركة أرامكو للنفط، فى حين كانت بريطانيا موجودة فى كل إمارات الخليج على مدى أكثر من مائتى عام. اللافت هنا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية هى التى أجابت على السؤال الصعب الذى فرض نفسه عقب إعلان بريطانيا عام 1968 الانسحاب من شرق السويس وهو: من سيملأ فراغ هذا الانسحاب البريطاني. ففى مؤتمر حضره سفراء الولاياتالمتحدة بالمنطقة عٌقد فى العاصمة الإيرانيةطهران تقرر أن تكون الولاياتالمتحدة هى من سيملأ فراغ الانسحاب البريطاني. ثم ظهر السؤال الصعب الثانى وهو: كيف ستملأ الولاياتالمتحدة فراغ الانسحاب البريطانى وهى مقيدة ب »مبدأ نيكسون« أى قواعد إدارة السياسة الخارجية الأمريكية التى أعلنها الرئيس الأمريكى نيكسون عقب الهزيمة الأمريكية فى فيتنام، وكانت تمنع الولاياتالمتحدة من إرسال أى قوات عسكرية للقتال خارج الولاياتالمتحدة. كان هذا هو أهم نتائج تلك الهزيمة وهو ألا تغامر أمريكا مرة ثانية بإرسال أى قوات أمريكية خارج الأراضى الأمريكية إلا باستثناء واحد هو الدفاع الاضطرارى عن «مصالح حيوية» أمريكية. وجاءت الإجابة على هذا السؤال الصعب بأن تقوم الإدارة الأمريكية باختيار قوة إقليمية حليفة موثوق بها وتبادر بتسليحها وتدريب قواتها لتقوم بمهمة الدفاع عن المصالح الأمريكية. وقتها تم الاتفاق على اختيار إيران (الشاه) لتقوم بمهمة الدفاع عن المصالح الأمريكية فى الخليج، ثم أضيفت إليها المملكة العربية السعودية بحيث تكون إيران هى صاحبة القوة العسكرية، وتكون السعودية هى صاحبة النفوذ السياسى والثقافى ضمن تحالف تقوده واشنطن عُرف ب «استراتيجية الركيزتين المتساندتين» أى الركيزة العسكرية الإيرانية والركيزة المعنوية (السياسية والثقافية) السعودية للدفاع عن المصالح الأمريكية الآن يعيد التاريخ دورته فالأمريكيون الذين بادروا ب «ملء فراغ» الانسحاب البريطانى من الخليج عام 1968 ينسحبون من الخليج وهو انسحاب يمكن اعتباره أيضاً مؤشراً للأفول الأمريكي، مثلما كان الخروج البريطانى مؤشراً لأفول الإمبراطورية البريطانية. ومثلما دخلت الولاياتالمتحدة ل «ملء فراغ الانسحاب البريطاني» من الخليج، تعود بريطانيا ل «ملء فراغ الانسحاب الأمريكى من الخليج». ولدوافع مشابهة وإن كان بعناوين مختلفة. عندما دخل الأمريكيون إلى الخليج كان الهدف هو السيطرة على نفط الخليج وحماية النظم الحاكمة الحليفة، وأيضاً حماية الحليف الإستراتيجى فى الشرق الأوسط أى «إسرائيل» من مصادر التهديد الأربعة التى تحدثنا عنها، والآن تعود بريطانيا إلى الخليج، لوراثة الدور الأمريكى المتراجع لأهداف وأطماع اقتصادية مشابهة فى محاولة لتعويض خسائر الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوروبي، وبذريعة حماية الدول الخليجية الحليفة من الخطر الإيراني. رئيسة الحكومة البريطانية «تيريزا ماي» أعلنت صراحة أن التوصل إلى اتفاق بشأن التجارة الحرة مع الخليجيين سيكون «أهم قرار تتخذه بريطانيا بعد قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي». وشرح بيان للحكومة البريطانية أن سفر تيريزا ماى إلى البحرين لحضور القمة الخليجية أن «منطقة الخليج هى أكبر مستثمر فى بريطانيا، وثانى أكبر مستورد غير أوروبى للصادرات البريطانية». وأمام القمة الخليجية كانت ماى حريصة على إسماع قادة مجلس التعاون كلاماً يحبون سماعه بالنسبة إلى إيران لكنها فى المقابل تحدثت عن شراكة إستراتيجية بريطانية خليجية أمنية وسياسية واقتصادية، فإذا كانت قد تعهدت أن تساند دول الخليج فى «التصدى للعدوانية الإيرانية» وترسيخ «شراكة إستراتيجية». فإنها زادت وضوحاً بقولها «أريد أن أؤكد لكم أننى على دراية تامة بالتهديد الذى تمثله إيران بالنسبة إلى الخليج ومنطقة الشرق الأوسط» وتابعت «علينا العمل معاً من أجل التصدى للتصرفات العدوانية لإيران فى المنطقة»، لكن كان لابد أن تحصل على الثمن وتتحدث بصراحة عن رغبة حكومتها فى تعزيز العلاقات التجارية مع دول الخليج، وزادت صراحة بالقول «أريد لهذه المحادثات أن تمهد الطريق للتوصل إلى اتفاقات تجارية طموحة». ما الذى يدفع دول الخليج لتكرار التجربة مرة ثانية. تجربة الاستقواء بموازن خارجى لتحقيق الأمن الذى تفتقده، رغم أن التاريخ يؤكد أن الأمن لا يمكن شراؤه، لماذا لم يعتبر الخليجيون بتجربتهم مع الأمريكيين، وما هى دوافعهم للاستقواء ببريطانيا؟ سؤال مهم له علاقة مباشرة بالصراع الإقليمى المحتدم فى المنطقة وخرائط التحالفات الجديدة. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس;