فى يوم مولد الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم والنفوس تتأهب للسكينة وتعيش مع خصاله الحميدة ووصاياه لأمته فاجأنا الإرهاب الأسود بجريمته الخسيسة بقتل مصلين فى دار للعبادة أوصانا بها وبأهلها خيرا عليه الصلاة والسلام. ووحد الجميع حزن عميق لف النفوس جميعا، لم يفرق بين أتباع الأديان ولا أصحاب الإيديولوجيات والانتماءات، فالمصاب جلل، والمستهدف مصر بأكملها، والضحايا أغلبيتهم العظمى أطفال ونساء مما ضاعف الألم فى قلوب كل المصريين. نعم كل المصريين، فمن ارتكب هذه الفعلة الشنيعة لا ينتمى لهذا البلد، ولا من يقف وراءهم أو يخطط لهم ويمولهم، ولا من استهواه القتل والترويع لأى إنسان كائنا ما كان. فمصر لم تعرف على طول تاريخها الممتد آلاف السنين مثل هذه الدموية البشعة، بل إنها لم تخبر الحروب الأهلية بأشكالها وأنواعها المختلفة. ومصر التى شهدت فى تاريخها عددا من المجاعات لم يرتكب أهلها مثل تلك الأفعال الخسيسة. وحتى فى أحلك أيامها فى السنوات العجاف رزقها الله بيوسف ليخرج بها سليمة معافة من الأزمة، وكان أهلها خير سند لها عبر التاريخ يحافظون عليها بصبر وجلد، لذا سموها “المحروسة” لثقتهم فى أن الله لن يخذلهم. ولمن لم يقرأ التاريخ فليسأل من عاش السنوات الست حالكة السواد التالية لنكسة 1967، ليحكى له كيف كان الصمود لضربة كانت كفيلة بزعزعة إيمان أى شعب بنفسه أولا وبقائده ثانيا، ولكن الشعب المصرى لم يخذل وطنه وضرب للعالم مثلا بتماسكه وتصديه للمؤامرة الغربية الصهيونية عليه، وفاجأ العالم بنصر أكتوبر 1973 فى وقت ظن الجميع أن همته قد فترت وأن عزيمته قد انكسرت. ولنا فى السنوات القليلة الماضية أمثلة عديدة على المعدن الأصيل لهذا الشعب؛ فرغم ما شهدته هذه السنوات فى بدايتها من انفلات أمنى إلا أن شباب ثورة 25 يناير أذهل العالم بسلمية ثورته، وكان مشهد الشباب وهو ينظف ميادين التحرير فى كل محافظات مصر التى شهدت وقائع هذه الثورة مثارا لإعجاب قادة العالم، فرشح أحدهم هذا الشعب للحصول على جائزة نوبل للسلام، ودعا آخر بلاده لتدريس تلك الثورة فى مناهج التعليم. ولا ننسى المشهد الذى تصدت فيه سيدات بولاق الدكرور للذين قاموا بسلب ونهب السوق الحرة وكيف قمن برد البضائع إلى منافذها بالمهندسين، وهن أحوج ما يكونون إلى ثمنها، ولكنها الفطرة والسليقة المصرية التى تحرص على شرف بلادها وتحمى ديارها مهما بلغ بها ضيق الحال. وقد توالت إبداعات هذا الشعب فى التعبير عن حبه لمصر بثورة أكثر من ثلاثين مليونا فى 30 يونيو دحرا لحكم الإخوان وتفويض الشعب الجيش للخلاص من حكمهم البغيض. ولم يخذل هذا الشعب بلاده منذ ذلك الحين؛ فخرج فى الاستحقاق الدستورى والاستحقاق الرئاسى رغبة فى أن يعود لمصر وجهها الذى يعرفه، وكان جمعه فى أيام قليلة لأكثر من 64 مليار جنيه من أجل بناء قناة السويس الجديدة مثالا آخر لبذله الغالى والنفيس من أجل هذا الوطن. ومازال هذا الشعب كل يوم يقدم أبناءه للاستشهاد على أرض سيناء وفى كل موقع فى سبيل عزة هذا الوطن وحمايته مما يدبر له، ويتكرر مرارا مشهد الأب المكلوم الذى يؤكد استعداده لتقديم باقى أبنائه فداء لمصر. إن تاريخ مصر القديم والحديث يكتظ بالأمثلة التى تشهد على أصالة هذا الشعب والتى يعجز المجال هنا عن تعديدها وسردها. ولكن هذا التاريخ أيضا يمتلئ بالغزوات والعدوان على مصر، كما أنه يشهد على أن هذا الوطن كان دائما مطمعا وجاذبا لمحاولات السيطرة عليه سعيا وراء خيراته العديدة والتحكم فى موقعه الفريد بين الشرق والغرب. وإذا كان زمن الغزوات والاحتلال العسكرى قد ولي، فإن أخطر ما يتعرض له الشعب المصرى هى محاولات شرذمته واستقطابه بين تيارات فكرية متناحرة، والفت فى عضد وطنيته وإصابة انتمائه لبلده فى مقتل. فهناك مساحات واسعة فى الفضائيات وعلى مواقع التواصل الاجتماعى تسعى كحملة ممنهجة إلى وأد الأمل فى المستقبل ونشر السخط على الواقع الصعب الذى يعيشه المصريون. وعلى مدى العامين الأخيرين تستثمر تلك الحملة إرثا طويلا من انعدام الثقة بين الشعب والنظام الحاكم تراكم على مدار عقود نتيجة انفصال الحكم وقتئذ عن قاعدته الشعبية، كما ترتكن إلى فشل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة فى أن ترتقى إلى طموحات هذا الشعب ومطالبه المشروعة. وتلعب هذه الحملة على أوتار جيل صاعد لا يملك من جذور الانتماء ما يعينه على فهم واقع ما يجرى على أرض مصر، ولا يملك الوعى الكافى بمخططات قوى الظلام التى تسعى إلى العودة إلى الحكم على أنقاض الدولة المصرية، تحقيقا لأهداف “سايكس / بيكو” القرن الحادى والعشرين. ولقد كان زرع الفتنة الطائفية دائما هو أحد الأسلحة التى استندت إليها هذه المحاولات المستميتة، وهنا يجب أن نثمن جميعا الموقف الصامد لأقباط مصر فبرغم كونهم أكثر “المدنيين” المصريين تعرضا للاستهداف كأفراد وجماعات وكدور للعبادة منذ ثورة 30 يونيو، إلا أن صبرهم وصمودهم كان وسيظل مثارا للإعجاب والتقدير، وسيكتب التاريخ عنهم أنهم لم يسعوا يوما للانتقام، ولم يحاولوا الاستقواء بالخارج، وأن مصر عندهم كانت أعز من أى انتماء. وفى كل مرة تتكرر محاولات غرس الفتنة الطائفية فى التربة المصرية كانت لحمة هذا الشعب كفيلة بقتل تلك النبتة الخبيثة ووأدها فى منبتها. ويكفى أن نتأمل مشهد السيدات المسلمات وهن ينتحبن أثناء خروج نعوش الشهداء من الكنيسة البطرسية، ذلك المشهد الذى أجبر وكالة رويترز للأنباء على اختياره “صورة اليوم”، وهى صورة تعبر بحق عن طبيعة وقوة النسيج الاجتماعى فى مصر. فبرغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة والحصار الاقتصادى والسياسى لمصر، ورغم تدهورالنظام التعليمي، وفقر المنظومة الثقافية، إلا أنه لا يعرف أحد كيف لا يزال هذا النسيج الاجتماعى متماسكا بهذه الصورة المثيرة للدهشة والإعجاب معا!!! ولكنها مصر المحروسة التى كانت دائما قادرة على دحر كل الغزاة الذين طمعوا فى خيراتها، وعلى هضم كل الثقافات الوافدة إليها، والتى دائما ما تذهل العالم بخلطتها السحرية التى منحتها البقاء لآلاف السنين، والتى تستحق منا جميعا غاية الحرص عليها وتعزيز الإيمان بها. لمزيد من مقالات د.نجوى الفوال;