برلين- قبل أن تطرح مسألة القوانين الجديدة للصحافة والإعلام كان يستوجب علينا أن ننظر إلى تلك المهنة نظرة مختلفة من داخلها ومن خارجها حتى لا نكرر فشل عقد آمال عريضة على قوانين ثم نكتشف أن الأمر لا يتعدى قانونا جديداً يضاف إلى قائمة طويلة من القوانين فى بلدنا. شاركت على مدى عدة أيام فى مؤتمر «ديناميكيات التغيير: الميديا والمجال العام فى مصر» بجامعة برلين المفتوحة وبمشاركة من صحفيين وباحثين يمثلون اتجاهات متنوعة من الصحافة القومية والخاصة ومن الصحفيين الإلكترونيين إلى الصحافة التليفزيونية. وقد ركزت المناقشات على محاور عدة إلا أننى وجدت أن المدخل الطبيعى ليس هو المشكلات العارضة التى تتعلق بالأزمات بين الحكومة ونقابة الصحفيين وليست فى تصنيف الصحافة والصحفيين إلى موالين ومعارضين (أرى أن التصنيف غير واقعى أن يصنف الصحف الخاصة ومواقع عديدة على أنها صحافة مستقلة أو معارضة رغم ملكية رجال أعمال معروفين لها يصعب حسبانهم على المعارضة) ولكن فى البحث فى كيفية الارتقاء فى المستوى المهنى والاحترافية. يغيب عن النقاش العام قضية غياب العمق عن المهنة وترتفع أصوات من لا نعرف لهم تاريخا فى شارع الصحافة يحدثوننا عن وقف التعدى على الصحافة والاعتداء على الحريات ثم ينجر نفر من الكتاب والصحفيين فى معركة عبثية يعرف أطرافها أن المسألة أقرب إلى «التمثيل» المتواضع ومحاولات بائسة لتقمص أدوار لم تعد تغرى الرأى العام بالمتابعة ولا يعنى الناس شخوصها، فى حين لن يرضى القاريء الشغوف بمهنة الأخبار وتفسيرها سوى ان يرى صحافة مختلفة ويطالع كل يوم ما يغريه على الاستمرار فى شراء صحيفته المفضلة.. تلك هى المعركة الحقيقية بعيدا عن الأطر القانونية الواجب استكمالها حتى لا ننسى فى غمرة الحماس-المصطنع- لعرقلة القوانين الجديدة أن القاريء لن ينتظركم كثيراً فى مؤتمر برلين، جاءت التقييمات واضحة أن الصحافة الورقية فى مصر تتعرض لهزة عنيفة بعد الضغوط المالية الأخيرة، وقال عدد من الخبراء إن التاريخ والحاضر يقف إلى جانب «الأهرام» وحدها تقريبا فى تحمل تبعات المستقبل وأنها الصحيفة المرشحة للاستمرار فى المستقبل دون معوقات كبيرة لو أحسنت توظيف قدراتها ومواردها فى الاتجاه الصحيح لبناء مؤسسة إعلامية كبرى بعد أن أثرت الأوضاع الاقتصادية على الصناعة وأصبحت المواقع الإلكترونية تهديدا واضحا للصحيفة الورقية- ليس بالضرورة أن تقدم الأفضل ولكنها تملأ الفضاء الإلكترونى بمضامين تهبط بالمستوى العام للمهنة حيث لا توجد وسائل للتحقق من دقة ما ينشر وحيث لا توجد ضوابط نقابية أو مواثيق أخلاقية تحكم عملها. قلت فى واحدة من الدوائر المستديرة للمؤتمر أن الرؤية الواقعية لوضع الصحافة المصرية يجب أن تسبق الصخب وافتعال المشكلات والصراخ وأن ننتقل سريعا من القوانين إلى العمل على تنظيم المهنة والمؤسسات من قبل من يفهمون فى صلب العملية الصحفية ومن يقدرون على رؤية المستقبل من خلال عيون وأذان مفتوحة على العالم الخارجى ومن يدرسون جيدا تطورات صناعة المحتوى والتقدم فى عالم التواصل الاجتماعي، وهو التطور الحاكم لمنظومة مهنة الصحافة فى السنوات القادمة ويترك أثره بقوة على سلوك المتلقى (القاريء والمشاهد). وقدمت الأهرام فى المؤتمر نموذجا راقيا لتقديم خدمة صحفية تتميز بها لسنوات طويلة وتتفرد بها اليوم بين أقرانها وهى «الصحافة العلمية» حيث نال عرض الزميل أشرف أمين رئيس القسم العلمى استحسانا كبيراً من خبراء الإعلام الألمان وبعضهم لم يكن يتخيل أن هناك صحيفة فى مصر والعالم العربى تولى مسألة البحث العلمى ورعاية العلم كل هذا الاهتمام ولا تكتفى بنشر ما يشبع رغبة القاريء فى وقت لا مجال للاهتمام بتلك الموضوعات، ولكنها تسعى إلى أن تكون جسرا ما بين العلماء المصريين فى الخارج والوطن ويجد شباب الباحثين والمهتمين ملاذا فى «نوادى علوم الأهرام» يقدمون من خلالها أفكارهم ويتحاورون مع بعضهم البعض بين جنبات المؤسسة العريقة. نموذج رعاية الأهرام للصحافة العلمية هو مثال على الخدمة الراقية التى تقدمها صحيفة ثقيلة الوزن تهتم بالمضمون ورصانة ودقة المعلومة ولكن تلك المضامين لا تعجب القوانين المختلة التى تحكم سوق الصحافة والإعلام المصرى والتى تكتفى بالقشور فى الغالب فى زيارة لاثنتين من المؤسسات الصحفية الألمانية واحدة من أقصى اليمين أكاديمية أكسل سبرينجر الناشر لصحيفتى بيلد Bild الشعبية وصحيفة Die Welt الرصينة إلى جانب 150 مطبوعة أخرى فى أوروبا، والأخرى صحيفة تاز Die Tageszeitung-taz اليسارية. فى المؤسسة الأولي، هناك ماكينة إعلامية ضخمة توظف قدرات الإنترنت للحصول على عوائد ضخمة من الإعلانات المبوبة والتى تتربع فيها على قمة تلك الإعلانات فى أوروبا ثم توجيه حصص من العائد لتطوير مهنة الصحافة، وهى تقدم أيضا الصحافة الشعبية والرخيصة التكلفة والسعر من أجل تحقيق أرباح إلى جوار الصحافة الأكثر عمقاً. فى «تاز» تعتمد الصحيفة على الرصانة والعمق والتحليل ولا تجرى وراء السبق على شبكة الإنترنت لأن هناك من يقومون بتلك المهمة بكفاءة ويقول محرروها إنهم يفضلون أن يكونوا «الأدق والأعمق» وليس «الأسرع». والصحيفة تعمل من خلال نمط «ملكية تعاونية» من خلال شراء القراء والمحررين حصصا وهو نموذج غير متكرر ولا يمكن القياس عليه إلا أنه أحد أنماط الخروج عن المألوف فى صناعة الصحافة العالمية والتى تتحكم فيها مجموعات إعلامية عملاقة تعمل بشكل عابر للحدود فى القارة الأوروبية وتشكل الخطاب الإعلامى بما يخدم مصالح بعينها فى الغالب. كلا النموذجين يعتمد على ما يطلق عليه نموذج الأعمال Business Model ومن خلاله يجرى تصميم عملية ناجحة للأعمال التجارية، وتحديد مصادر الإيرادات، وقاعدة العملاء، والمنتجات، وتفاصيل التمويل. وقد انتقلت عملية بناء النموذج من الصحافة الورقية إلى الإعلام بالمعنى الأوسع والأشمل فى السنوات الأخيرة حيث تشغل عملية تصميم النموذج الأفضل اليوم حيزا كبيرا من تفكير المخططين الاستراتيجيين فى المؤسسات الإعلامية والصحفية الكبري. المستقبل يحمل هموما أبعد من تشريع قوانين وانتظار تطبيقها.. مستقبل الصحافة ينتظر إطلاق الطاقات وتأهيل العاملين فيها وهو يبدأ بصناعة مهنة محترفة مؤثرة تحصد اهتمام القاريء. فالقاريء هو الحكم على مستقبل المهنة ولا يسعده ما يقرأ إلا قليلا وتلك هى القضية الأولى بالاهتمام فى صناعة الصحافة اليوم! [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم;