أظنها كانت مفاجأة من العيار الثقيل نفسيًا واجتماعيا ذلك الذى كتبه أستاذنا صلاح منتصر بالأهرام، قبل ثلاثة أيام، عن أن بلدانًا مثل هولندا والسويد وسويسرا، تعتزم إغلاق المزيد من سجونها، وتتزايد عندهم الشكوى من خلو أبنية السجون من النزلاء. وأغلب الظن، أن الكثيرين، ممن قرأوا كلمات الأستاذ، مصمصوا بشفاههم، وهزوا رءوسهم حسرةَ وحسدًا ، بل وقد يكونون تمتمتوا هامسين: «يا عينى علينا!». صحيح.. لماذا ترتفع عندنا أسوار السجون حتى تكاد تطاول سحب السماء، بينما آخرون (أولاد تسعة مثلنا)، لا تجد سجونهم من يعمّرها؟ أين السر بالضبط؟ ثمّة عدّة تفسيرات، بعضها سطحى تبسيطي، ومعروف للجميع، وبعضها «باطني»، يتطلب جهدًا لفهمه. وأول التفسيرات السطحية، أن هذه مجتمعات قد شبعت وامتلأت بطونها، فلم يعد لدى مواطنيها مبرر لأن يرتكبوا الجرائم، إذ الجوع والفقر والحرمان هى السبب الأساس لامتلاء السجون. إلا أن ذلك تفسير قد يطاله الشك. والدليل أن كثيرًا جدًا من الفقراء- رغم مغصة الجوع- لم يفكروا أبدًا فى ارتكاب الجرائم كى يوفوا باحتياجات أبنائهم للقوت. بل على العكس، ستجد فى سجوننا الكثيرين ممن أفاء الله عز وجل عليهم برزقه عن سعة، ومع ذلك قادهم الطمع والجشع إلى غياهب السجون. وبالتالى فإن الفقر- لعنة الله عليه- لم يكن هو السبب الأهم فى سجن المسجونين. والتفسير الثاني، هو السياسة، حيث إنك ستجد من يقول لك، إن هؤلاء المساجين تم سجنهم، لأنهم جهروا بآراء لم تعجب الحاكمين، فتعقبهم الأمن، وحبسهم، بمعنى أنهم سجناء رأي. غير أن هذا أيضًا غير صحيح على إطلاقه، حيث لا يمثل مساجين الرأى فى سجوننا سوى نسبة محدودة، قياسًا بسجناء الجرائم. تفسير ثالث، هو أن الجهل والأمية وتدنى مستوى التعليم، يدفع بالجهلاء إلى ظلمات السجون، نتيجة لقلة الوعي، وعدم الالتزام بالقوانين، وكما هو معروف فإن القانون لا يعترف بالمغفلين، والجهل بالقانون لا يعفى من تحمل المسئولية. وقد يكون ذلك صحيحًا أحيانًا، لكنه ليس السبب الأقوي.. فكم من نبهاء فطنين أذكياء، حطمت أضلاعهم أرضيات الزنازين الغرقانة بالماء فى البرد القارس! فما السبب إذن فى أن سجوننا نحن مكتظة صاخبة، وسجونهم خواء تنعى من بناها؟ خذ عندك تلك الأسباب الباطنية: السجن ليس مجرد جدران شاهقة الارتفاع تعلوها الأسلاك الشائكة، ولا مجرد سجانين غلاظ قساة القلوب، مفتولى العضلات، مبرومى الشوارب، ولا مجرد أحكام قضائية متسرعة، لم تكلف نفسها عناء دراسة القضايا بعناية، فزجت بالآلاف إلى ما وراء القضبان. السجن- نعم- هو كل ذلك.. لكن هناك ما هو أكثر وأخطر! أنت يمكن أن تكون مسجونًا مثلًا فى تخلفك، الذى يرجع عمره إلى آلاف السنين. هذا التخلف يأخذ بخطواتك دائمًا إلى الوراء، فلا تعليمًا أصلحت، ولا عن صحة حافظت، ولا لصناعة وطنية محترمة أقمت، ولا باقتصاد وطنى شامخ نهضت. كما أنك يمكن أن تكون سجينًا فى خوفك، الذى يبلغ بك أحيانًا مبلغ «الرهاب» - يعنى الفوبيا - الواصل بك حد الشلل، فإذا بك تخشى كل شيء محيط بك، كالشرطة، أو موظفى الدوائر الحكومية، الذين سوف ينشفون لك لعابك إن أنت أجبرك حظك العاثر على الوقوع بين براثنهم، أو من رؤسائك فى العمل، أو من الثانوية العامة، أو على لقمة العيش ومستقبل العيال. ثم إنك قد تكون خائفًا من الماضى وأباطيله، التى حبستك فى هرتلات وترهات وشعوذات ساذجة، باسم الدين، بينما دين الله الحق منها براء، أو باسم العادات والتقاليد الموروثة، البعيدة عن العقل والمنطق والعصر، فإذا أنت مكبل بأصفاد أقوى وأشد وطأة من كلابشات المساجين العاديين. مشكلة هذا النوع من السجون الباطنية، هى أنك تحملها معك فى جيئتك ورواحك، وفى نومك قبل يقظتك، وفى عقلك الباطن أكثر مما هى فى عقلك الواعي، وسوف تجدها تخرج لتسرح كالذئاب الجائعة فى أحلامك، التى لم تعد أحلامًا، بل صارت كوابيس تطبق على أنفاسك.. فتنهض من النوم مفزوعًا ترتعد. هذا السجن الكامن فيك، هو أقسى أنواع السجون، حيث لن يعالجه أحد إلا أنت، إذ كيف يهرب المرء منا من نفسه وسجنه منه فيه؟.. فما الحل؟ هناك علاجات ثلاثة، توصل الإنسان المصرى إليها، من خلال المعاناة الطويلة، طوال آلاف السنين. أولها اللجوء إلى الخالق جلّ فى علاه. ومنذ القدم والإنسان المصرى يعرف أن السماء دائمًا ستكون معه، ولن تتركه وحيدًا. وهذا علاج سهل، ولدينا نحن المصريين فى رءوسنا، بئر عميقة، مليئة بالحِكم والأمثال وإرشادات الدين، تتلخص جميعًا فى عبارة واحدة خالدة هى «يا عم.. خليها على الله». غير أن المشكلة الوحيدة فى هذا العلاج، أن البعض يختزل الحياة كلها فيه، فلا يسعى ولا يجتهد، ومن ثم تصبح كالمخدر اللذيذ، الذى يعوقك عن السعى فى مناكبها، والأكل من رزق الله، ومن ثم يكون للعلاج فى تلك الحالة أثر عكسي، (سايد إيفّيكت)، مدمر، هو التواكل واللا مبالاة والكسل، فيزداد السجن إيلامًا ووطأة. والحل الثاني، هو مواجهة المشكلات بوعى وواقعية، بلا تهوين ولا تهويل، والإيمان بأن لكل مشكلة حلًا، مهما ضاقت حلقاتها، المهم أن تبحث دائمًا عن حلول، ولا تستنيم لليأس والإحباط، وتعليق «الشمّاعات».. وما أكثرها. ويبقى الحل الثالث، وهو مواجهة خوفك فى عينيه، من خلال أسئلة تسألها لنفسك: أنا خائف من ماذا بالضبط؟ من الفقر؟ من الظلم؟ من المرض؟ من العمل؟ فإذا حددت مصدر الخوف، فابدأ فى تغيير السبب. ولسوف تكتشف أن البدايات دائمًا صعبة.. لكن تكرار المحاولة لابد وآخذك إلى الشفاء.. لأن (مدمن طرق الأبواب لابد أن يَلجَ)..وساعتها ستنهار كل سجونك.. حتى لو كانت بلا أسوار. لمزيد من مقالات سمير الشحات