بعد أيام قليلة وبالتحديد يوم الأحد المقبل تحتفل الامة الاسلامية بذكرى مولد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، الذى كان ميلاده نورا أضاء البشرية، وقد احتفت الأغنية المصرية والعربية كثيرا بمولد الهادى،لكن نظرا لمنع الأزهر تصوير الأنبياء والرسل منعا باتا لأنه ينزل بمكانة الأنبياء من عليائها وكمالها الأخلاقى ومقامها العالى فى القلوب والنفوس إلى ما هو أدنى من ذلك، لهذا لم يجرؤ أحد من المخرجين المصريين على التفكير فى تقديم عمل عن الرسول الكريم، لكن أثناء البحث فى أرشيف الأهرام الفنى، وجدنا أن المخرج التركى وداد عرفى الذى حضر لمصر عام 1925 ممثلا لشركة «ماركوس» السينمائية، كان يستعد لتصوير فيلم عن «الرسول عليه الصلاة والسلام»، وما إن نشر الخبر فى الجرائد والصحف اليومية ومنها «الأهرام» حتى قامت الدنيا ولم تقعد، خاصة أنه قد اختار على النجم ذائع الصيت حينذاك «يوسف بك وهبى»، لتجسيد شخصية «النبى عليه الصلاة والسلام» فتعالوا نسترجع معا الأحداث التى كانت من أوائل القضايا الفنية التى فجرتها جريدة «الأهرام». فى شهر مارس عام 1926 نشر خبر يفيد بأن الدكتور ماركوس الذى سبق له أن صور فى مصر بعض مناظر الفيلم الفرنسى «بئر يعقوب» الذى سيعرض قريبا فى سينما «أميريكان كوزموجراف». سوف يحضر إلى مصر مرة أخرى لكى يصور فيها بعض مناظر فيلم «محمد عليه الصلاة والسلام» قصة وإخراج وداد عرفى، وبطولة الفنان المحبوب يوسف بك وهبى. وبمجرد نشر الخبر قامت الدنيا على وداد عرفى ويوسف وهبى، خاصة بعد تدخل الأزهر، فكتب يوسف وهبى للأهرام يوم السبت 22 مايو 1926 فى الصفحة الرابعة يقول: اطلعت فى عدد الأمس على مقال كتبه مسلم غيور وبه يشكو إلى ولاة الأمور ما قرأه عن عزمى على تمثيل رواية النبى محمد، بشكل وهيئة لا تليق بكرامة النبوة ولا تتفق مع عظمة الدين، مع أن هذا خبر كاذب وحقيقة لا أصل لها، سيدى إنى إذا كنت قد رضيت أن ألعب هذا الدور فى السينما فليس إلا لرفعة شأن محمد عليه الصلاة والسلام، وتصويره أمام العالم الغربى بشكله اللائق به وحقيقته النبيلة وليس الغرض من هذا الفيلم سوى الدعوة للدين الإسلامى الذى تعضده الحكومة التركية نفسها. ونظرا لاشتعال الثورة على يوسف بك وهبى، حيث لم يقنع رده الغالبية العظمى من الشعب، كتب فى الأهرام بعد يومين من نشر مقاله الأول مقالا ثانيا، يوم الإثنين 24 مايو بعنوان «كيف يصورون النبى عليه الصلاة والسلام» جاء فيه: من يوسف وهبى الممثل إلى حضرات السادة العلماء وجموع الشعب الإسلامى: «سادتى أتقدم إليكم بصفتى طالبا منكم الإرشاد والنصيحة وأن تدلونى على السبيل السليم الذى يجدر بى أن أسلكه .. بعث إلى منذ شهر الأستاذ وداد بك عرفى الكاتب والمخرج التركى المعروف الذى هبط إلى أرض مصر قريبا ومندوب شركة «ماركوس» السينماتوغرافية التى اتخذت لها محلا فى باريس يطلب منى مقابلته فبادرت اليه، حدثنى عن شركة سينما تريد أن تأخذ بعض المناظر فى مصر، وتقوم بإخراج روايات شرقية ومصرية وعربية، مثل تاريخ جزيرة العرب، حياة محمد على باشا وغيرها. حبذت له الفكرة إذ إننا نتمنى أن تكون فى مصر شركة سينماتوغرافية، وطلب منى الأستاذ عرفى بك أن أهديه بعض صورى الفوتوغرافية، وسافر إلى باريز، وبعد ذلك بخمسة عشر يوما وصل إلى القاهرة جناب الدكتور ماركوس رئيس الشركة وطلب مقابلتى. وعندما تقابلنا قال لى: «إن الشركة وقع اختيارها على أنا لتمثيل أدوار البطولة»، وعرض على شروطه وبعد مناقشة قبلتها، بادرنى قائلا: سنبدأ بعمل تاريخ سيدنا محمد، فوجمت قليلا وسألته عما يعنى فأجابنى : نريد أن نظهر للعالم أجمع عظمة محمد ومجد الدين الإسلامى، نريد أن يؤمن به الجميع، ولكننى لم أندفع وأجبته قائلا: لا أستطيع! فأجاب لماذا؟ فقلت إن ديننا يحرم علينا أن نصور هذا الرجل العظيم مهما كان قصدنا حسنا، فقال : «ولكنك إذا رفضت القيام بهذا الدور فسيلعبه أجنبى غيرك لا يعلم عن الدين الإسلامى حرفا، أيها المسلم لا تدع غيرك يلعب هذا الدور المهم»!. لقد كانت المناقشة حادة بينى وبين الدكتور ماركوس، هذه قصة المشروع يا سادتى والآن ما هو رأيكم؟ إن أمثال هذه الشرائط ممكن منعها من الدخول فى البلاد الإسلامية فلا أظنكم تستطيعون منعها فى البلاد الأجنبية وفى هذا تكون الطامة، أم ندع القوم يعبثون بنا ويمسخون حقيقتنا، وليعلم اخوانى المصريون أن شعارى دينى قبل كل شئ
«صاحب رمسيس يوسف بك وهبى». وظل موضوع الفيلم سجالا حادا بين يوسف وهبى وبعض العلماء على صفحات الأهرام، من هؤلاء إبراهيم جاب الله من علماء التخصص بالأزهر الذى رد على يوسف وهبى يوم الخميس 27 مايو،حيث قال : «وإننا مع إعجابنا بالأستاذ يوسف وهبى لحسن أدبه ونبوغه فى فنه وتمسكه بدينه، إن المشروع بحسب ظاهره يخدع البسطاء، ولكن إذا تأملنا فى ثناياه نلمح وميض السوء ونذير الشر، لأننا لسنا من البلهاء حتى نعتقد أن شركة أجنبية تسعى لنشر الإسلام فى جميع أنحاء العالم، إننا لا ننكر أن فى مقدرة يوسف وهبى أن يمثل عظمة الملوك والسلاطين، ولكننا ننكر عليه أن يمثل صورة صحيحة لرسول الله، فإذا كان مبدأ الأستاذ وهبى كما يقول «دينى قبل كل شىء» فليتنح عن هذا المشروع، وليعلم أن فى مقدوره وهو على مسرحه أن يكون امبراطورا وليس فى مقدوره أن يكون نبيا! إبراهيم جاب الله من علماء التخصص بالأزهر وظهر بنفس العدد أى الجمعة 28 مايو رد من المخرج وداد عرفى جاء فيه: تأثرت جدا من هذه الأخبار التى لا تستند حتى الآن إلى قرار بات صريحا، وكونوا على ثقة تامة بأن أعمال شركة ماركوس لن يكون فيها أى عمل يمس دين الأمة. المخرج وداد عرفي كما تلقى الأهرام أيضا ردا من الكاتب المسرحى والشاعر بديع خيرى، جاء فيه: لابد أن أصارح الأستاذ يوسف بك فى شىء من الحيطة والحذر وانبهه إلى خطورة موضوع كهذا له جلاله، وله قداسته، يقول الأستاذ يوسف بك إن المسيحيين أنفسهم لم يعترضوا على إظهار صورة السيد المسيح فى أوروبا، وفاته أن الفارق عظيم جدا بيننا وبينهم من هذه الناحية، وهذا ما أجزم باستحالته فلا نزاع قط فى أن شخصية محمد عليه الصلاة والسلام أرفع بكثير مما يستطيع أن يتصوره مجرد شخص فى غير مقام النبوة بديع خيرى صاحب جريدة ألف صنف وبعد الحملة الشرسة عليه خاصة من الشيخ عبدالرحمن خلف كتب يوسف وهبى ل الأهرام يوم 6 يونيو قائلا: سيدى العالم الفاضل الأستاذ الشيخ عبدالرحمن خلف المدرس بالأزهر الشريف، ليس معنى قولى هذا أننى أدافع عن فكرة تمثيل النبى محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد برهنت العكس واحترمت قرار مشيخة الأزهر، وحملة الأهرام وامتنعت عن التمثيل ما داموا وهم أكثر منى معرفة قد رأوا أن فى هذا اهانة لدينى الذى أموت فى سبيل رفعته، وكان جزائى منك وجزاء المسرح الإهانة والتحقير، سامحك الله. يوسف وهبى صاحب فرقة رمسيس وفى النهاية لم يخرج الفيلم للنور بسبب حملة الأهرام!! التى ذكرها الباحث السينمائى الكبير أحمد الحضرى لكننا ولأول مرة ننشر الوثائق الدالة على صحة هذا الكلام. جدير بالذكر أن السينما الإيرانية قدمت منذ نحو عامين فيلما تكلف حوالى 50 مليون دولار أثار ضجة كبيرة، قبل وبعد عرضه عن مولد الرسول عليه السلام، وحتى بلوغه سن الثالثة عشرة، فى فيلم بعنوان «محمد رسول الله» للمخرج الإيرانى مجيد مجيدى، وسوف يقوم المخرج بتكملة الفيلم من خلال جزءين آخرين قريبا!.