فوجئت هنا في باريس بعدد من الصحفيين الفرنسيين والعرب يتصلون بي الواحد تلو الآخر يسألونني رأيي فيما قالوا إنه صدر في القاهرة عن أحد أعضاء البرلمان المصري من اتهام لأديبنا الأكبر نجيب محفوظ بأن أدبه «خادش للحياء» وأن ذلك كان يستوجب تحريك دعوي قضائية ضده(!!!) ولاحت أمامي صورة مصر وكأنها مازالت تحت حكم الإخوان وقت انطلقت دعاوي مماثلة ضد محفوظ تصف روائعه الأدبية بأنها «أدب الدعارة وغرز الحشيش»(!) وتصف أرقي الفنون وهو فن الباليه بأنه «فحش»(!) ينبغي حظره، وتصف آثارنا التي بهرت العالم علي مر القرون بأنها «أصنام» ينبغي تحطيمها(!)، الي آخر ذلك التفكير المعوج، والجاهل بطبيعة الفن، والذي يعبر عن نفسية مريضة لا تري في الآداب والفنون إلا ما هو حسي، دون أن تتبين ما وراءه من سمو روحي. وكنا قد تصورنا أن ذلك التفكير المريض قد سقط يوم 30 يونيو 2013 حين ثار الشعب علي من أتوا به من أقاصي الصحاري القاحلة التي لم تعرف ثقافة الحضر ولم تقم حضارة علمت الإنسانية الفكر والفن والثقافة والمعمار، كما تصورنا أننا يوم تم فض اعتصامهم المسلح فإننا جردناهم من أسلحتهم النارية، لكن ها هو ذات الفكر المريض يطل علينا من جديد من داخل المؤسسة التشريعية الرسمية، ليحاربنا هذه المرة بالاتهامات الباطلة بعد أن فقد أصحابه بنادقهم المعمرة وسيوفهم المشهرة. وإني لأعجب من برلماننا هذا الذي يفترض أنه برلمان الثورة، فقد تفاءلنا به خيرا لكن اتضح أنه أحد أسوأ المجالس النيابية التي عرفها تاريخنا الحديث، لقد تصورنا أنه البرلمان الذي سيسن القوانين المكملة للدستور والتي من شأنها أن تغير حياتنا وتنقلنا الي المجتمع الجديد الذي من أجله قامت الثورة، فإذا بأحد النواب ومن داخل اللجنة التشريعية المنوط بها سن هذه القوانين، ينطق بذات البذاءات التي نطقت بها أفواه هؤلاء المرضي الذين لم يروا في فنانينا إلا الفجور، وسأل أحدهم علي شاشة التليفزيون إحدي فناناتنا الكبيرات: «كم رجل اعتلاكِ»؟! إنه لمن المقلق حقا أن يأتي ذلك الخرف البرلماني في الوقت الذي يقبع فيه الروائي الشاب أحمد ناجي خلف القضبان بنفس التهمة التي يتشدق بها النائب المذكور والتي لم ترد أصلا في الدستور، وفي الوقت الذي صدرت أحكام مخافة للدستور علي كل من المفكر الإسلامي إسلام بحيري والشاعرة فاطمة ناعوت بالسجن بدعوي ازدراء الدين، وتلك تهمة لم ترد هي الأخري في الدستور، وكأننا مازلنا تحت حكم الإخوان، فلا ثورة قامت يوم 30 يونيو، ولا دستور جديد كتب ليضع أسس المجتمع الجديد الذي نادت به الثورة. ودعونا نسأل ما هي المؤهلات العلمية التي سمحت للنائب الذي وجه ذلك الاتهام بالخوض في تخصص أدبي يبذل البعض سنوات طوالا في دراسته لنيل أعلي الدرجات العلمية من أكبر جامعات العالم؟ كيف يطلق ذلك النائب الأحكام هكذا علي درر الأدب الروائي العربي الذي كرم العالم صاحبها بأعلي الجوائز العالمية دون أن يكون علي دراية بأصول النقد الأدبي وقواعده؟ هل انتخابه نائبا لإحدي الدوائر بدمياط يعطيه الحق أن ينتحل صفة الناقد الأدبي فيقوم بكل بساطة بتقييم إبداعات أديبنا الأكبر الذي هو أحد أعلام الفن الروائي في العالم، وكأنه الدكتور لويس عوض أو الدكتور محمد مندور أو الدكتور علي الراعي أو الدكتور رشاد رشدي أو الدكتور عبد القادر القط، أو غيرهم من أصحاب المدارس النقدية المعروفة والذين كتبوا جميعا عن نجيب محفوظ وعن عبقريته الروائية غير العادية؟ إن أمامي نسخة من كتاب «مصر بين عصرين» للمفكر والمسرحي الكبير توفيق الحكيم قدمها لنجيب محفوظ بمناسبة عيد ميلاده عام 1983، وقد صدرها بالإهداء التالي: «إلي عبقري الرواية نجيب محفوظ الذي أقام للرواية العربية طوابق شامخة بعد أن وقفنا نحن عند الطابق الأول»... ثم ما هي قصة خدش الحياء هذه؟! إن الشعب المصري ليس شعبا قاصرا، بل هو أعرق وأقدم الشعوب جميعا، وقد تمرس في الآداب والفنون علي مدي القرون أكثر من أي شعب آخر، وهو ليس بحاجة لمن يفرض عليه الوصاية فيحدد له ما يقرأه ويمنع عنه ما يدعي أنه قد يخدش حياءه. إن كل الآداب ما لم تكن قصصا للأطفال بها ما يمكن أن يوصف من الجاهلين بالآداب والفنون بأنه خادش للحياء، بل إن الكتب المقدسة ذاتها لا تخلو من ذلك الذي يدعي نائب دمياط أنه خدش حياءه، وإني أشير عليه بأن يعود لقراءة نشيد الأنشاد علي سبيل المثال، أو قصة امرأة العزيز، أو عبرة قوم لوط، ليكتشف أن ذكر ما يصفه بأنه خادش للحياء في إطار العمل الفني - كما في الكتب المقدسة - ليس الغرض منه الدعوة لهذه الخطايا أو الترويج لها، وانما العكس تماما، فهو يرد في سياق كتاب يدعو للفضيلة وللأخلاق، ومن ثم تصبح له قيمة تربوية قد تغيب عن نظر المتخصص لكنها تؤتي فعلها في كل من يقرأها، لذلك فإنه لا حياء في الدين، ولنفس السبب فلا حياء في الفن أيضا، فلا رقص الباليه من الفواحش، ولا آثارنا أصنام، ولا أدب نجيب محفوظ خادش للحياء، لذلك فنحن نرسل أبناءنا الي المتاحف لنعلمهم الرقي الفني والسمو الروحي، رغم أن هذه المتاحف قد يكون بمعروضاتها ما قد يري غير المتخصص أنه خادش للحياء. إن مثل هذا الاتهام الخطير إنما يضع النائب الذي وجهه تحت طائلة القانون لأنه بذلك قد انتهك الدستور الذي كان قسمه علي احترامه هو شرط قبوله بالبرلمان، والدستور قد نص علي أن حرية الإبداع الأدبي والفني مكفولة، لذلك فإن من يستحق أن يقدم للمحاكمة حقا ليس أديبنا الأكبر الذي نباهي به بين الأمم، وإنما من يطالب بمحاكمته وفق منطق الدواعش والوهابيين، وكأننا مازلنا في دولة الإخوان التي تصورنا أنها سقطت، لأنه بذلك انما ينتهك الدستور الذي أقسم علي احترامه. لمزيد من مقالات محمد سلماوى