أعود لأكتب عنه في ذكرى رحيله السنوية الأولى .و لعلها هذه المرة تتجاوز التأبين . فقد التحق سامي منصور الأستاذ والدكتور والمحلل البارز للعلاقات الدولية والمفكر الناصري اليساري من طراز خاص بالعمل بجريدة الأهرام في شبابه .وتحديدا عام 1958. وللمصادفة في نفس العام الذي ولد فيه كاتب هذا المقال . لكن هذه الفجوة العمرية التي تبلغ أكثر من عقدين من الزمان وحيث ولد كاتبنا الراحل عام 1935 لم تمنع ماأظنه كيمياء التفاعل والألفة والنقاشات الطويلة.وهذا منذ دخلت الى مكتبه المتواضع بالدور السادس بالمبني القديم منتصف الثمانينيات .ثم ما أصبح لاحقا نصف مكتب مع اقتطاع المساحة غير الفسيحة بالأصل ليشغلها زميل . وبالنسبة لي شخصيا ثمة مفارقة لاحظتها في حينها بين الأستاذين سامي منصور و لطفي الخولي . والأخير بدأت العمل بالأهرام معه بصفحة "الحوار القومي" التي أشرف عليها. و أكن له تقديرا ومحبة. وكانت هذه الصفحة تصدر في أعوامها الأولى يومين في الأسبوع . علاوة على هذا كان للخولي حضوره اللافت بنشر عديد المقالات على صفحات الجريدة . فيما غاب منصور. ولقد تيقنت لاحقا عندما عدت الى أرشيف كاتبنا أن نشر اسهاماته في الأهرام شح وندر اعتبارا من 1976 . ثم انقطع مع 1981. ولم يكن من السهل في البداية تفسير هكذا تناقض بين حالتي الكاتبين الساكنين للطابق السادس، خصوصا أن كليهما طالهما على نحو أو آخر مالحق بعشرات بل بمئات الكتاب والمثقفين في سنوات السادات الأخيرة وبعد كامب ديفيد. فاضطر الخولي الى منفى في باريس .وجرى نقل كاتبنا تعسفيا وقسريا الى هيئة الاستعلامات . لكن العودة الى الأهرام قبل منتصف الثمانينيات حملت مصيرين مختلفين لكليهما .ولو على الأقل بالنسبة لفرص النشر . ولعل تفسير هذه المفارقة تكمن في اختلاف موقع الرجلين من السلطة داخل المؤسسة الصحفية وفي الدولة . والظاهر أن لطفي الخولي كانت لديه قدرة على اعادة بناء علاقة مثقف بالسلطة على نحو يسمح بالتفاعل، وربما بالتوظيف المتبادل .وهذا مع انه يأتي من أصول فكرية وايديولوجية لتيار ( ماركسي ) لم يصل أبدا الى الحكم .و يبدو أن سامي منصور مع أنه من ابناء الدولة الناصرية لم يكن راغبا وربما غير قادر في مثل هذا التوظيف والتفاعل مع سلطة دولة لحقت بها تغيرات اعتبرها بمثابة نقيض لأسس «الوطنية والقومية الناصرية ». وتتضح هنا الفروق الشخصية الفردية من قبيل أن منصور يكتب ما يقتنع ويريد والخولي يقبل بكتابة مايستطيع. ومعها أيضا الانتماء لمؤسسات وجماعات تطبع خياراتها السياسية مسار الشخصيات. فقد كان الخولي قياديا في حزب «التجمع» أما منصور فقد ظل مخلصا للأستاذ هيكل بعدما عمل لسنوات في مكتبه حتى غادر منصبي رئيس التحرير ومجلس الإدارة 1974.وربما ظل على قناعة بأن المؤسسة مختطفة من خصوم هيكل. الانضباط في الحضورالى مكتبه صباحا ويوميا يقابله الغياب المديد عن النشر على صفحات الأهرام لسنوات تلو سنوات. هذا مع أن الرجل «مليان» فكريا ومعرفيا وصحفيا ولديه ما يقول . وفي هذه المفارقة أيضا ماقد يوحي بالظن بأننا إزاء «حالة حب من طرف واحد» أو حبيب غير راض عمن يحب، لكنه لا يستطيع الإقلاع عن الحب، أوالانشغال بشئون الحبيب الذي يظنه مختطفا. وسيرة سامي منصور المهنية داخل الأهرام كما خطها بيده في ملفه الأرشيفي في أحد أيام عام 1986 تبدأ بكلمة «محرر» وبعبارة :« محرر في قسم الأبحاث بجريدة الأهرام » . ومن يعود الى مساهماته سيلفت نظره هذا الانتاج الغزير في سنوات الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، ومتابعته المتميزة لحركات التحرر الوطني و عدم الانحياز . وحتى في علاقته بمركز الدراسات أضاف بقلمه على بيانات ملفه باللون الأحمر صفة « الصحفي».وأعز كتابين الى قلبه كما أخبرني غير مرة يعكسان حالة الباحث المسكون بروح الصحفي وبتقاليد وأخلاقيات المهنة . وأنا أتحدث هنا عن :«مذبحة لبنان الكبرى » الصادر عام 1981 و« تجارة السلاح والأمن القومي العربي» عام 1991. وثمة في منهجية هذين الكتابين العمدتين في مجاليهما ما يفيد بأن قناعات الباحث وتحيزاته يجب ألا تحول دون نشر الحقائق و استقاء المعلومات والآراء من مصادر متعددة ،بل وتناقض هذه القناعات. فهم علاقة كاتب مثقف بوزن وقيمة سامي منصور مع الأهرام يتطلب ان نشير على سبيل الختام الى دوره النقابي المقدر عندما كان عضوا بمجلس نقابة الصحفيين ومقررا للجنة حرياتها في سنوات نهاية السبعينيات العصيبة . فقد أطلق مبادرة تشديد حظر التطبيع مع إسرائيل وفي يوم رفع علم سفارتها بالقاهرة. وهو مالم تنشره صحيفته أو أي من الصحف القومية ،وحفظه لنا أرشيف جريدة «الشعب » المعارضة .وتحديدا بعدد 26 فبراير 1980 .وهذا الموقف اختيار كاتب ومثقف وناصري يساري من طراز خاص قررالاتساق مع فكره وضميره ، فيما أخذ رجال كامب ديفيد ممن رافقوا السادات الى القدسالمحتلة يحكمون قبضتهم على المؤسسات الصحفية والبحثية ويصادرون كل رأي مختلف و معلومة لاتروق « للريس». ولعل في تكلفة هذا الاختيار ما يساعدنا على فهم سيرة سامي منصور الرجل والظاهرة. [email protected] لمزيد من مقالات كارم يحيى;