لم يكد يمر يوم واحد على بارقة الأمل التى تراءت لنا مع صدور العفو الرئاسى عن إسلام بحيرى، حتى توارت هذه البارقة واختفت مع صدور الحكم بسجن يحيى قلاش نقيب الصحفيين المصريين والزميلين جمال عبدالرحيم سكرتير عام النقابة، وخالد البلشى رئيس لجنة الحريات بها. وقد يتحفظ بعضنا ويقول إن إطلاق سراح إسلام بحيرى قبل أن يكمل مدة العقوبة التى حكم عليه بها وقضى فى السجن معظمها لم يكن بارقة أمل، وأن الذين تفاءلوا بإطلاق سراحه وأنا منهم كانوا واهمين، وقد خاب فألهم وأصبح عليهم أن يتشاءموا. فها هو الحكم يصدر بإدانة النقابيين الثلاثة الذين حاولوا أن يؤدوا واجبهم النقابى فى حماية زملائهم والدفاع عن حقهم فى التعبير عن رأيهم فقدموا للمحاكمة وحكم عليهم بالسجن والغرامة. وهو إجراء يتسم بالعنف الشديد ويثير الشعور بالريبة ويسمح بتوقع ما هو أعنف وأشد. ولاشك فى أن هذا التحفظ له مايبرره فيما يقع فى هذه الأيام من صور العدوان على المثقفين وعلى المواطنين. لكن العفو الذى حصل عليه إسلام بحيرى وخرج به من السجن قبل أن يكمل مدة العقوبة يدعو من ناحية أخرى للتفاؤل والإيمان بجدارة المصريين وقدرتهم على السعى للحصول على حقهم الكامل فى الحرية والتخلص من الأغلال الباقية الظاهرة والخافية الموروثة من عصور الظلام والانحطاط. المثقفون المصريون لم يكفوا منذ صدر الحكم على إسلام بحيرى عن الدفاع عنه والتضامن معه والمطالبة بإطلاق سراحه. ولاشك فى أن صورة إسلام بحيرى الآن لم تعد مرسومة بيده وحدها، وإنما أضيفت للخطوط الأساسية التى رسمها لنفسه خطوط جديدة رسمها إعجاب الناس به واعترافهم بشجاعته وتقديرهم لتضحيته. ومن المؤكد أن هذه الصورة التى أصبحت لإسلام بحيرى كانت منظورة محسوبة فى العفو الرئاسى الذى حصل عليه، خاصة إذا ربطنا بين دعوة الرئيس السيسى لتجديد الخطاب الدينى والدور الذى قام به إسلام بحيرى فى هذا المجال، ولم يقم به الأزهريون الذين كالوا له التهم ووضعوه فى الزنزانة!. نستطيع بناء على هذا أن نقول إن العفو الذى حصل عليه إسلام بحيرى لا تقدر قيمته بالمدة التى أعفى من قضائها فى السجن مقارنة بالمدة التى قضاها فيه، وإنما تقدر بكونه اعترافا تأخر بعض الشىء باستحقاق إسلام بحيرى للحرية التى هى قيمة معنوية وليست مساحة زمنية أو مكانية، كيف لا كم، ووعى بوجود لا تحده حدود، حتى فى السجن الذى يستطيع فيه السجين صاحب الحق فى الحرية أن يظل حرا طليقا، بل أن يكون فيه أكثر حرية من الذين سجنوه. وقد رأينا بالفعل أن إسلام بحيرى لم يتخل فى سجنه عن خياراته، ولم يتنكر لمعتقداته، بل ازداد إيمانا بها وتمثلا لها، وأصبح على يقين بأنه حين يدافع عن العقل، ويسخر من الخرافة، ويندد بالإرهاب، ويأخذ الدين من مصادره، ويخلصه من أيدى المتاجرين به ويراه هدى ورحمة للبشر وليس استعباداً لهم ومصادرة لحقوقهم الطبيعية أقول إن إسلام بحيرى أصبح وهو فى سجنه على يقين بأن قضيته التى نذر نفسه لها ليست قضيته وحده، وإنما هى قضية كل المصريين الذين رفعوا لواءها قبله وسوف يرفعونه على الدوام. الدستور الأخير عامر بالمواد التى تكفل حرية الاعتقاد والفكر والرأى والبحث والابداع لكن المواد التى تخلط فيه بين الدين والدولة تجعل المواد الكافلة للحريات حبرا على ورق، وتعيدنا لما كنا عليه قبل أن نستعيد استقلالنا وقبل أن نعرف الديموقراطبة والدستور وحقوق الإنسان. أرجو أن تقرأوا معى هذه السطور النيرة التى كتبها محمود عزمى منذ حوالى مائة عام عما يجب أن يتضمنه دستور 1923 من المبادىء والحقوق فقال عن حرية الرأى: «نحن نريد أن نقول بصريح العبارة إن كل انتقال فى حالنا السياسية إن لم يكن انتقالا فى حالنا الفكرية ومعتمدا على انتقال فى حالنا الاقتصادية فهو لا محالة غير مجد وغير منتج. ويستحيل أن يكون هناك انتقال فى حالنا الفكرية ما لم تكن هناك حرية واسعة مطلقة من كل قيد للمفكرين الذين يريدون أن يدلوا برأيهم غير هيابين تدخل طائفة أو جماعة تحسب أنهم بإبداء آرائهم إنما يهاجمون آراءها للقضاء عليها.. نعم. يجب أن تمنح الحرية المطلقة لإبداء جميع أنواع التعبير وان حاولت أن تكون هادمة للثابت الراسخ من التقاليد. لأن الانتقال الفكرى لا يكون إلا بالاقدام على نقد القائم من الآراء والسائد من الأفكار. ولا يستطاع هذا الإقدام بسهولة إلا إذا أزيلت من طريق إبداء الفكر الطليق كل العقبات». وعلى خطى محمود عزمى ومن جاءوا بعده من أمثال فرج فودة، ونصر حامد أبوزيد، وسيد القمنى يسير إسلام بحيرى ويشعر بالانتماء لهذا التاريخ المجيد فيزداد ثقة فى نفسه، وينفسح أمامه مجال القول والفعل. وتلك هى الحرية التى لا يعرفها الذين حرضوا عليه والذين اتهموه والذين سجنوه. فإذا كانت الحرية شرطا للتقدم، وإذا كانت وعيا وامتلاء حميما بالوجود فالحرية سعى متصل نتخلص به من قيودنا الداخلية التى ورثناها من ماضينا ومن قيودنا الخارجية التى يكبلنا بها المجتمع المتخلف والحكام المستبدون. والحرية إذن مثل أعلى، غاية نقطع إليها الطريق الذى قطعه الآخرون. نواجه ماواجهوه من عقبات، ونقدم ماقدموه من تضحيات، حتى نجد أنفسنا فيها. الفرنسيون حتى قيام ثورتهم فى نهايات القرن الثامن عشر كانوا يصادرون مؤلفات جان جاك روسو وكانوا يحرقون كتب فولتير. والانجليز كانوا يحاكمون من يخرج على العقائد المسيحية بمقتضى قانون سموه قانون «العيب فى الدين» الذى ظل معمولا به حتى بدايات القرن العشرين. ويظهر أن هذا القانون الانجليزى هو الأصل الذى قلدناه فى آخر الزمان بقانون «ازدراء الأديان» . لكن الحرية سوف تنتصر عندنا لا محالة كما انتصرت فى فرنسا وانجلترا، وكما انتصرت فى الهند واليابان. وأعود فى النهاية لما تعرضت له نقابة الصحفيين وتعرض له مجلسها فأتمنى أن نصل فى هذه القضية إلى حل عادل يحفظ الحق والكرامة للجميع لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى