أسهمت الدراسات الشعبية فى تعظيم الوعى الجماهيرى بمكونات الثقافة الشعبية التى قدمت للإنسانية إبداعا متعدد الأشكال والقوالب. وفي القلب منها «فن العديد» الذي تولع به العديد من الشعراء والباحثين، وحاولوا استجلاء تجلياته الفنية، وجوانبه الاجتماعية. وبين جهودهم برز اهتمام الشاعر «درويش الأسيوطي» بالعدودة كفن شعري، وتتبع تلك العادة الاجتماعية التي اقترنت في الصعيد بالأحزان والمآتم. فأثرى الدراسات الشعبية بمؤلفه العميق عنها وعنوانه «أشكال العديد فى صعيد مصر»، ورصد عبره تجلياتها المختلفة، بما فيها عدودات غُسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، وعلى القبر عند الدفن، وبالمقابل لها عدودات عن الزواج والأب والعريس والعروس والأم، وأخرى لليتيم، وللحالة النفسية والاجتماعية، وللباكية الحزينة، وغير ذلك. واعتنى الأسيوطى بالعدودة كفن شعرى شديد الخصوصية، يحتاج لتحقيق كنوزه العظيمة، التى لو استوعبها الموهوبين من الشبان واقتبسوها لأصبحوا من أهم شعراء الإنسانية. والعدودة جزء من الموروث الشفاهى، ولها طبيعتها الخاصة، فهي إبداع نسائى خالص، ومجتمع النساء فى صعيد مصر كان وما يزال محافظ بطبيعته، والعديد أو التعديد هو ذكر مناقب الميت وتعدادها. وتطلق «العدودة» على مفرد الغناء الحزين أو البكاء الغنائى الذى تمارسه النساء، فالمرأة المصرية تردده دائما كلون من الغناء، الغناء الشجي، وكلما خلت إلى نفسها وفاض صدرها بمعاناتها الشخصية، انعكس ذلك فى صورة عديد، وقبل أن تبكى من مات من الأحبة تبكى حالها هى وما تعانيه من ضغوط عائلية ومجتمعية خانقة. قالوا شجية (شقية).. جُلت (قلت) من يومى قسموا النوايب.. طلع الكبير كومى يا مرت أبويا.. يا عُجدة (عقدة) اللحلاح ميتى تموتى.. وامسك المفتاح ويتضح لكل مهتم بهذا الإبداع الإنساني، أن طقوس الموت ليست بدعة مستحدثة، فالثابت أن المصريين القدماء شغلوا بقضية الموت الذى لم يكن بالنسبة لهم سوى غياب مؤقت، يأتى بعده يوم تعود فيه الروح إلى الجسد، فحرصوا على وضع كل مايحتاجه الانسان من مأكل ومشرب مع موتاهم، والمرأة باعتبارها حجر الزاوية فى العائلة المصرية، ظلت تعد غياب أحد أفراد عائلتها وخاصة الرجال منهم مصيبة تستحق البكاء وتستحق أن تهيل التراب على رأسها، وتضع الطين على صدرها ورأسها، وتعد ذلك واجبا، فالموت عندها وحش يسرق أفراد أسرتها من بين يديها، خاصة الرجل مصدر دخلها، ومنبع فخرها، والولد عدة المستقبل والبنت التى تعدها لتحمل رسالة الأمومة من بعدها، لذا حوَّلت المرأة كل تلك المشاعر والأحاسيس إلى أغنيات تغنيها فى لحظات الشدة والوحدة والاحساس بالفقد. والبكائية أو العدودة فن مصرى أصيل، حيث يستخدمه الأحياء في تأبين الميت وذكر مناقبه وصفاته ومحاسنه، وتحويل المناسبة إلى غناء خالص، يخاطب قطعة شديدة الخصوصية والعمومية تعفى النفس البشرية من الفقد، فحين يفقد الانسان عزيزا لديه تتجمع عواطفه كلها لتفجر تلك العدودات الإيجابية العظيمة. ويخص الأدب الشعبى «الوفاة» بمكانة تفوق الزواج والميلاد، وتبلغ البكائيات الجنائزية درجة عالية من التجويد والصنعة الشعرية. ولكل طقس وحالة غناء يخصها، ويصنف الغناء الباكي، أو العديد زمنيا حسب وقت التغنى به، فالندب يبدأ فور طلوع الروح، وتقام مندبة على القبر عند الدفن، والعزاء يكون عقب العودة من المقابر. وهناك «بكاء المواسم» فى العيدين والمناسبات الدينية والاجتماعية. ويصنف عديد الجنازة بدوره حسب المكان الذى يتم فيه. فهناك «عديد الغسل»، ويجرى قرب الميت حيث يتم غسله. و«عديد الكفن»، ويتم أثناء تجهيز الكفن ولف الميت به. و«عديد القبر» ويكون بجوار المقبرة. و«عديد النصبة» وهو القسم الأكبر من العديد، حيث تجلس النساء معا فى بيت الميت ويُعددن، ويسمى بالمناحة. ويختلف عديد النصبة باختلاف سبب الوفاة كما يختلف باختلاف جنس المتوفى وعمره وحالته الاجتماعية. والندب. إذ لا يسع المرأة حينما تسمع بخبر موت عزيز، إلا أن تلطم خدها، وتشق جيبها، وتدب على قلبها، وتهيل التراب على نفسها، وتضع الطين على رأسها وصدرها، تعبيرا عن الفاجعة. والندب غناء يصاحب لطم الخدود، والدب على القلوب، والأمر يختلف فى حالة موت أحد العظماء، وقد تستمر المندبة أياما بعد دفن الميت. وتُشكِّل الندَّابات فى هذه الحالة موكبا مؤثرا يطوف أهم دروب القرية، وهذا الطقس تراجع كثيرا الآن. ويذكر أنه فى «مندبة فلاح» فقير كانت زوجته تندب قائلة: ابكى عليه ونوحى.. وخدى طربوشه وروحي راح فين.. صارى البوابة.. قتلوه.. وكتروا النهاية ولم يكن المتوفى يضع على رأسه طربوشا قط، كما أنه لم يكن له ذكر بين أهله ولم يكن لديه ما ينهب. ومن نماذج الغناء الحزين الذى تردده أخت المتوفى : وين الخية.. هاتوها.. إتشيل الطين على أخوها وين الخية إتشيل الطين أنا وهيه حيث تعد الأخت أول الخاسرين بموت الرجل فهو سندها ومصدر الدخل والحماية لها. والندابة تطلب إحضار الأخت لمشاركتها ندبها الفقيد، والتعبير عن الحزن بشيل الطين. ثم تأتى الأم فى المقطوعة الثانية لتشارك الأخت فى هذا الطقس. وين أمه.. وين أمه.. إتشيل الطين على همه قولوا لخاله ولعمه.. روحوا نبلوا العمة والمقطوعة تطالب الرجال أيضا بإبداء مظاهر الحزن على الميت، لكن من يندب لإبداء الحزن هم الأقارب كالعم والخال. شالك ياولد.. شالك.. شلت النيلة علشانك وفى مثل تلك اللحظات تبدى الندابة شيئا يثير مشاعرهن مثل ملابسه وما يضعه على رأسه كالعمة والشال والطربوش والطاقية. ياعايق يا أبو بلينة دى رصاصة ولا سكينة و(البلينة نوع من العمائم يُطوى طيَّات عديدة لتكون ضخمة. واشتهر بها رجال جنوب الصعيد). وفى هذه المقطوعة نحن أمام مقتول، والقتل المتعمد إلى جانب مصيبة الموت هو مذلة. والندب بداية المحفزات للأخذ بثأر المقتول من قاتليه. وحين تسأل الندابة عن سبب الوفاة معددة لهم أدوات القتل، متسائلة هل قتل بالسكين أم ضرب بالرصاص ؟ فهى تستهدف إثارة المشاعر، لا مشاعر النساء فقط وإنما مشاعر الرجال أيضا. فين الرجالة السدَّادة.. اضربوا عز القيالة فين الرجالة المسمية (مشهورة الأسماء) اضربوا عز الضهرية والمعددة تتحسر على فقدان الرجال صاحبة الاسم والقدر، فهؤلاء الرجال قتلوا فى وضح النهار، فى وقت القيلولة. وأما عن الغسل فيقصد به تطهير الميت، وعادة تبدأ نوبة عديد الغُسل بأن تطلب النائحة من المرأة القريبة من مكان الغسل أن تصرخ عندما يقومون بخلع ملابس الميت عن جسده لبدء الغسل، فهو يستحق الصراخ الشديد. وسيلاحظ القارئ أن المعددة تُبدل السين صادا على عادتها فى القرية. يا مغصلة .. قبلن تقبل الضهر ميل عليه قوللوا الغياب كد إيه ؟! ولا تفرق النائحة وجدانيا بين الغسل وبين حمام العريس فكلا الطقسين موضع اهتمام الجميع يا مغصلة.. غصل بمية ورد بعد الغصل..قول له نعيمة ياشب يامغصلة.. ماتغصليه بكافور بعد الغصيل.. ما تعمم الغندور فهى تحدث الغاسلة باعتبارها تقوم بحمام العريس، فبعد أن ينتهى من الحمام يجب أن يهنئ بقول نعيما..! وحين يكون الميت امرأة، فالغناء يتناسب مع النوع، والمرأة فى ساعة الغسل تتراءى للنائحة، بعد أن تجردها الغاسلة من ثيابها، تصبح كالسمكة التى أخرجت لتوها من البحر. وشلباية البحر نوع من السمك النيلى يتميز بالرشاقة واللون الفضى الجميل. عينى عليها.. بين غواصلها شلباية البحر.. والصياد قابلها ومن قابله الصياد لن يفلت من شباكه.. وتتحدث النائحة عما يحدث للفقيدة فى التو، وعلى لسان الفقيدة نفسها تقول : الغاصلة قعدت ورا أكتافى حلت ضفايرى... وبللت راسى والغاصلة.. قعدت ورا ضهرى حلت ضفايرى وبللت شعرى ولكى تخلل المياه الشعر وتصل إلى منابته وهو شرط الطهارة لابد من فك الضفائر وخاصة المحكمة الجدل والتى قد تعيق وصول الماء إلى منابت الشعر. مالك تكبى .. المية على عينى إياك لقيتى.. بعدى حبيب غيرى مالك تكبى.. المية على وشى إياك لقينى.. بعدى حبيب خلفى تقول العدودة مالك أيتها المغسلة، لماذا تتعجلين غُسلى، وصب الماء على وجهي وعيوني، هل وجدتم حبيبا غيرى فاستعجلتم الخلاص منى. وتكفين الميت من فروض الكفاية، ونصوص التكفين قليلة لأن إعداد الكفن يتم فى فترة الغسل أو قبلها، لذا نسمع عن الكفن عند لف الميت وتربيطه. جابوا الجديد.. ما تقوم يا نايم لبس الجديد.. يغيبك دايم جابوا الجديد.. ما تقوم يا نعسان لبس الجديد.. يغيبك لزمان والنائحة هنا تحذر الميت وتنبهه وتقول له اصح يانايم، ولا تفرح بالجديد كالعادة، فلبس هذا الجديد هو حكم عليه بالغياب الدائم. فتقول النائحة على لسان الميت، هاهم قد لفوا جسدى فى أكفانى، اصرخى الآن أيتها الجالسة فى القاعة قريبا منى، فإنه وقت الصراخ. يا قاعدة.. فى القاعدة من قدام ما تفرحى.. لفونى فى الأكفان يا قاعدة.. فى القاعدة من قبلى ما تصرخى.. لفونى فى كفنى وعن دفع الميت فإنه يوضع فى قبره على جنبه الأيمن مستقبلا القبلة.. القبر قال له.. انزل وأنا اتلقاك آنستنى.. وقطعت اللى وراك يقول الغير للميت مرحبا بك، آن لك أن تستريح، لقد أرهقت نفسك لإثبات الرجولة. القبر قال له.. يا مرحبة يا جدع حل شمار.. المرجلة واضطجع وحتى الغير لا يسره موت الشباب.. القبر قال له.. يا مرحبة يازين انت صغير.. وأنا ضلاحى شين القبر قال له.. يا مرحبة يا حر انت صغير.. وأنا ضلامى مر والرجل صاحب المقام والقدر، لا يصح أن ينام على التراب وأن يتوسده أيضا، لذلك فقد أرسل يطلب سريرا من بيته شيع هاتوا لى.. سرير من بيتى واربع مساند.. وشهم زيتى شيع هاتوا لى.. سرير من عندى واربع مساند.. وشهم وردى (ويقصد بكلمة شهم كسوة المساند) إن العدودة المصرية حزن عنيف لكنه خلّاق، ويكفى أنها تكرس لتخليد الفقيد بتحويله إلى منظومة من الصفات الحميدة الباقية، فالحضارة المصرية القديمة قامت على قهر الموت بتخليد ذكرى الفقيد فى صورة مادية وفنية باقية. ومن كل ما تقدم نخلص إلى أن العديد عند الشاعر «درويش الأسيوطي» هو : «.. نهر حزن بلا مصب.. يجرى منذ آلاف السنين.. ولن يجف أبدا».