يمكن– على المستوى الاصطلاحى- أن نطلق على رواية «جبل الطير» رواية التربية، وذلك اتباعا للمصطلح الألمانى Bildungsroman، وهو اصطلاح يشير إلى الرواية التى تصور حياة البطل (أو البطلة) عبر سنوات حياته التى يتعلم فيها الكثير إلى أن يصل إلى سنوات النضج أو العطاء، أو حتى النهاية. ولكن البطل هنا ليس بطلا عاديا، وإنما هو بطل صوفى تتتبع الرواية حياته منذ الصغر، وتحديدا منذ أن يخرجه والده من المدرسة الابتدائية ليعمل معه فى الحقل كى يساعده بعد أن اعتلت صحته، تاركا أخاه الأكبر فى التعليم إلى أن يرحل هذا الأخ عن الحياة فى فترة مبكرة، تاركا كتبه فى صندوق؛ إرثا لأخيه الصغير الذى لا يكف عن القراءة فيها، وذلك لتعويض ما فاته من علم كان يتطلع إليه، ويتشوق لأن يكمل به طريقه فى دروب المعرفة، غير مدرك أن من المقدور عليه أن يمضى فى طريق آخر هو العلم الصوفى والمعرفة الحدسية التى يلجها فى مطلع شبابه، بعد أن يضطر للعمل حارسا للآثار كى يُعين الأسرة، خصوصا بعد اعتلال صحة والده. ومن موقعه كحارس للآثار تبدأ رحلته المعرفية مع التصوف، خصوصا بعد أن يسلمه العهدة (بعض أدوات العلم) الحارس «عبد المعطى» الذى سيتحول فيما بعد إلى شيخه «عبد العاطى» الذى يأخذ عنه العلم الصوفى، ويظل متتلمذا عليه إلى أن يورثه العلم والطريقة راحلا عن الدنيا. وخلال هذه الرحلة يحلم- مشروع الصوفى الصغير «سمحان»- بغادة هيفاء هى «جميلة» المسيحية التى يقع فى غرامها، كما تقع هى فى غرامه، دون أن يلتقيا فى دنيا الواقع، فالأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف على مستوى عوالم الروح قبل أن يتم اللقاء على مستوى عوالم المادة، وهو ما يحدث بالفعل ل «سمحان» بعد أن يغادر عمله القريب من منزله ويذهب إلى دير «العذراء» ليعمل حارسا له، وقبل أن يعلم أن «جميلة» إحدى راهبات هذا الدير، التى لم تكمل شعائر الرهبنة بعد. وتترك حياة الرهبنة بعد أن ناداها مناد خفى هو منادى الأرواح التى تتآلف فى محبة الله، وتتعرف على «سمحان» الذى عرفته بروحها قبل أن تعرفه بجسدها. ومنذ تلك اللحظة تبدأ مشكلات الصدام ما بين الحبيبين وتقاليد المجتمع الجامدة، وهى تقاليد هينة إذا ما قورنت بتقاليد الجماعات السلفية التى كان لابد أن يصطدم بها «سمحان» وزوجه، كما اصطدم كلاهما بتقاليد الأصولية المسيحية، ولكن كليهما انتصر على العوائق التى تعوق لقاءهما فى المحبة الجسدية التى هى أولى درجات المحبة فى الله أو هى أولى درجات العشق الصوفى الذى يكتمل بها لكى يمضى «سمحان» فى الطريق المقدورة عليه، تحت رعاية شيخه «عبد العاطى» الذى يحميه ويصحبه فى بقية طريق المجاهدة، صاعدا درجاتها، صابرا على قسوة اختباراتها، إلى أن يصل «سمحان» إلى عتبة المعرفة الحدسية الصوفية التى تؤهله لأن يرث شيخه «عبد العاطى»، وأن يصبح واحدا من العارفين والوارثين لعلم «عبد العاطى» على السواء، وذلك عبر امتداد مجاهدات «سمحان» الروحية التى لا تتوقف ولا تكف الدنيا عن امتحانه إلى أن ينجح أخيرا فى أن يصل إلى الملكوت، مغادرا الدنيا بدوره بعد أن يوصى بوراثة الطريقة لأخلص أتباعه. وما بين البداية والنهاية تتحرك أحداث حياة «سمحان» فى خط صاعد ينحدر فى بعض الأحيان، لكنه يواصل الصعود فى مساره العام، إلى أن يصل إلى النقطة الأخيرة التى يتحول بها «سمحان» إلى ولى من أولياء الله الصالحين الذين يمكنهم الله تعالى من أن يطووا الأرض طيا كأنهم برق أو طيف، أو يمشوا على الماء أو يطيروا فى الهواء كاليمام الطيب، أو يعرفوا من دخائل النفوس ما لا يعرفه غيرهم. ومنهم من إذا ضرب قدمه فى الأرض انبجس ماء طهور يتوضأ منه، ومنهم من إذا رأى قحطا ومحطا، رفع يده إلى السماء لتنفرج الغمة، فينزل المطر ويخضر الشجر اليابس، وهذا مصداقا للحديث القدسى الذى يقول: «.. ومَا تَقَرَّبَ إِلَىّ عَبْدِى بِشَىءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ». هكذا يصل «سمحان» إلى الدرجة التى يفتح الله عليه فيها، مزيلا من أمام بصره وبصيرته كل الحجب، فيصل إلى كل ما لم يصل إليه الآخرون فى طريق المجاهدة التى يمضى فيها إلى نهايتها، ويمنحه الله من عطايا البركة ما لا يصل إليه إلا آحاد الأولياء وأكثرهم قربا من الله سبحانه وتعالى، ولا يفارق الدنيا إلا بعد أن يرى العلامة التى لم يرها أحد غيره، ولم تتحقق لأحد سواه. ومن المؤكد أن عمار على حسن يسير معنا فى سرد كرامات «سمحان» ابن عبد الباطن، صاعدا بنا فى معاريج الكرامة الصوفية التى لابد أن نتقبلها بمنطقها هى وبمنطق السرد الذى يرفع على حكيه راية الخيال التى نستظل وإياه بها ونتقبلها، كما نتقبل منجزات المعجزات الصوفية بوصفها نوعا من الخيال الذى لا نملك سوى تصديقه من منظور الوجدان، وليس من منظور العقل الخالص أو الصارم. هكذا تتعطل ملكة العقل المنطقى لتهيمن ملكة الخيال الحدسى الذى هو طريق العلم اللدنى الذى نبحر– كالكاتب - فى محيطاته وبحوره، هادينا الخيال والحدس اللذان يفتحان آفاق إدراكنا على أقصى امتداد مصاريعها، كى ندرك امتزاج الواقعى بالغرائبى، والوهمى بالفنتازى، فيتركب السرد من حوادث وحدوس البصر والبصيرة، فى عوالم لا تنتهى أعاجيبها. ولكن هذه الأعاجيب لا تنأى بنا عن الواقع الذى نعيشه سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فهناك دائما ما يلفتنا إلى العالم الذى نعيشه، لا لكى نغيب عنه، وإنما لنزداد حضورا فيه؛ فكل حدس يشير إلى ما هو حادث، وما تكشف عنه البصيرة يردنا إلى ما يراه البصر؛ فكل تباعد عن الواقع اقتراب لكل من يصل بين الرموز والإشارات والعلامات، فمنطق الخيال الصوفى فى الرواية هو «أجافيكم لأعرفكم» فيما يقول حلاج صلاح عبد الصبور، ومنطق الحدس هو المعنى الذى قصد إليه الشاعر القديم: «سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا». ولذلك لا تنحصر شخصية «سمحان» فى بعد واحد، خلال متابعتنا لها على امتداد السرد وتحولاته، حيث إنها تنقلب مع امتداد السرد إلى شخصية رمزية متعددة الدلالات تجمع ما بين الماضى والحاضر والمستقبل على السواء، وذلك فى شبكة من العلاقات الدالة التى تحوم فيها الدوال بلا توقف مع حركة العين القارئة العابرة للأسطر، ولذلك نقرأ تاريخ "سمحان" بوصفه سردا رمزيا لولى من الأولياء أصحاب الكرامات، ومن حيث هو تمثيل كنائى allegory لما يحد ث فى الواقع المصرى الآن، وأخيرا: بوصفه رمزا أوسع وأشمل دلالة فى الإشارة إلى الصوفية بأكملها، وذلك بوصفها حضورا نقيضا للحضور السلفى على مستوى الفكر الدينى من ناحية أو الأصولية المذهبية بوجه عام من ناحية موازية. ويعنى ذلك أن علينا أن نتابع سيرة حياة «سمحان» على مستويات متعددة، فقصته و«جميلة» هى سرد إبداعى تتشكل منه رواية «جبل الطير»، وهى- من ناحية ثانية- سرد رمزى للصراع بين الصوفية من ناحية، والسلفية الدينية من ناحية ثانية، والأصولية الدينية المسيحية من ناحية أخيرة. لكنها فى الوقت نفسه، وعلى المستويات الرمزية نفسها، موازاة رمزية لتحول المعرفة البشرية من صراعات ما بين قوى النقل والعقل والحدس إلى ما بعد ذلك من مركب مستقبلى يختفى فيه النقل الملازم للتقليد ليبقى التحالف بين القلب والعقل بوصفهما مبشرين بمستقبل واحد يهيمن فيه العلم، ولكنه العلم الذى يرث من العقل روحه النقدى ومن القلب خياله الصوفى، فتشهد الدنيا والإنسان من عجائب المستقبل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. وهذا هو سر البشارة اليوتوبية التى تنتهى بها صفحات الرواية، حيث يطير «سمحان» على أجنحة الرؤيا– ما بعد وفاته- محلقا فى فضاءات الأزمنة إلى أن يحط على زمن من أزمنة المستقبل؛ حيث يجد حفيده فى مدينة للعلم، يرى فيها ما سوف يتكشف عنه المستقبل من انتصار حتمى لتحالف العقل والقلب، وما يترتب على هذا الانتصار من تقدم فى معاريج الرقى والكشوف العلمية. ويتحول الحفيد إلى عالم شبيه ب «عرفة الساحر» فى «أولاد حارتنا»، حيث يرث «عرفة» الحفيد الأخير للجبلاوى علم جده الذى يتواءم فيه العقل والقلب ويتآلف فيه العلم والدين ويترادف فيه التجريب والتخييل، فيحقق «عرفة» بسحر العلم ما لم تره عين فى الحارة ولا أذن سمعت به، وتشهد بذلك رؤيا نجيب محفوظ التى يرثها عمار على حسن، فيكشف الراوى العليم بكل شىء أمام بصيرة «سمحان» التى تغدو باصرة، عن الإمكانات المذهلة التى سوف يحققها العلم على يدى حفيده الذى ورث عقل «برهان» وعلمه، وحدس جده لأبيه وخياله على السواء، فتشهد مصر القادمة من رحم المستقبل مشرق النور والعجائب حقا لا وهما، وواقعا لا خيالا. (وللتحليل بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور