يدور الصراع فى رواية «جبل الطير» حول ثلاثة محاور أساسية، يقف فيها دائما «سمحان» فى مواجهة النقيض أو النقائض له؛ أما النقيض الأول فهو السلفية الوهابية التى ترفض التصوف، جملة وتفصيلا، بقدر ما ترفض النزعات العقلانية والاتجاهات العلمية. وأما النقيض الثانى فهو الأصولية المسيحية التى ترفض النزعات الإنسانية بقدر ما ترفض الحرية الدينية أو النظر إلى الدين بوصفه مسألة شخصية بين العبد وربه. وأما النقيض الثالث فهو «سمحان» نفسه بماضيه الذى ينتسب إلى الدنيا الفانية، وبحاضره الذى تنطوى فيه ذاته على كل ما يشدها إلى الدنيا وغواياتها، فهو صراع خاص بالمجاهدة ضد النفس الأمارة بالسوء، والتى لا تكف عن غواية صاحبها كى تلقيه فى حمأة شهوات الدنيا. والصراع الأول بين «سمحان» (ونلاحظ دلالة الاسم المشتق من السماحة والتسامح) والسلفية الوهابية، نواجهه بعد أن تزوج «سمحان» «جميلة» وعاهدها على أن يتركها على دينها. ولكن هذا الموقف لا يثير غضب الجماعة السلفية فى الحى الذى يسكن فيه، بل يمتد إلى المدينة التى يقع فيها الحى، فيتصدى له أمير الجماعة الذى جمع حوله عددا من شباب القرى وميزهم عن غيرهم بارتداء الجلاليب البيضاء وإطلاق اللحى الطويلة وإخفاء الوجوه تحت أقنعة عابسة. ويطلب الأمير من «سمحان» أن يهدى زوجه إلى الإسلام، ويماطله «سمحان»؛ لأنه فى وحدة وغربة وهم يتكاثرون كالجراد، غلاظ، قساة لا يرحمون، ولديهم تبرير عجيب لكل شىء كأن الله لم يخلق غيرهم، وأعطاهم إذنا مفتوحا بأن يتصرفوا مع الناس كيفما شاءوا، مسيطرا عليهم وهم أن الله يقف إلى جانبهم، وأنهم جماعة المؤمنين دون غيرهم، وما عداهم إما أن يكونوا جُهالا أو كفارا أو منافقين، ولذا استحلوا دماءهم وأموالهم بلا حدود. وهنا لا يملك «سمحان» إلا أن يواجههم بعد تردد، وبعد أن منحه القوة الداخلية والقدرة على المواجهة كلام شيخه. وبالفعل تقف معه زوجه «جميلة» داعمة إياه، خاصة لأنها تؤمن بأن «الله محبة، ومن يثبت فى المحبة يثبت فى الله، والله فيه». وتبكى وهى تقول: «لن أكرههم لكن سأطلب من الرب أن يجنبنا أذاهم، ويصرفهم عنا فى سلام». ويقرر الاثنان أن يخوضا المعركة فى مواجهة السلفيين، وتمكنهم قدرة الله وبركات الصوفية من الانتصار عليهم، وبعد أن تنتهى المعركة بانتصار الخير، يقرر «سمحان» وزوجه الرحيل إلى قريته «جبل الطير» كى يكونا فى حماية أهله وعشيرته، لكن يفاجئهما فى قريته جماعة سلفية أخرى، كما لو كانت السلفية الوهابية قد غزت قرى مصر كلها. وتبدأ معركة أخرى مع أميرهم، لكن فى هذه المرة ينضم إليهم عضو ثالث هو «برهان» ابن صديق «سمحان» القديم، (ولاحظ دلالة الاسم التى تربط البرهان بالعقل والمنطق)، مشيرة إلى النزعة العقلية المنطقية بوجه عام. ويتصدى «سمحان» للجماعة السلفية الجديدة فى قريته، أولئك الذين يتوهمون أن ما هم عليه هو الدين، وما سواه باطل أو بدعة «وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار». هكذا بدا لهم «سمحان» بقلبه و«برهان» بعقله كافرين والعياذ بالله. أما «جميلة» فهى نصرانية تستحق الهداية والإسلام، ويتصدى «سمحان» للمعركة ويخوضها مضطرا، وينجح فى مواجهة هؤلاء الذين أفتوا الناس البسطاء والجُهال بالباطل وأغروهم باتباعهم، بالتشدق بعبارات تغريهم بكلمات من قبيل:«قال الله وقال الرسول». وتظهر شجاعة عمار على حسن الروائى فى الوصل بين الجماعات الإسلامية وأجهزة الحكم والدولة. والإشارة الواضحة إلى التحالف بين هذه الجماعات والحكومة، وذلك منذ أن جعلت الحكومة هذه الجماعات ظهيرا لها:«ترعرعوا فى حجرها، بدليل أن شكاوى الناس ضدهم كانت تمزق فى مركز الشرطة، ومن يقبض عليه منهم سرعان ما يفرج عنه ويعود لينتقم ممن تجرأ وشكاه» (ص 497). واللافت للانتباه أن أمير الجماعة فى قرية «سمحان» كان فى مثل عمره، وكان صاحبه فى طفولتهما الغضة، وترك المدرسة بعده بسنوات: «وسافر فى ريعان شبابه إلى السعودية للعمل، وعاد بعد عشرين سنة على الهيئة التى هو عليها». فأصبح بعض «الآفة» التى أصابت بلادنا ولا فكاك منها إلا بإصلاح من الجذور. والذى يتحدث هنا هو الراوى المباشر الذى يتحد تماما بالمؤلف الذى لا يخجل من التعبير عن أفكاره أو من التمثيل عليها بما هو تأكيد لها. ولا يقتصر الصراع مع السلفية الوهابية فحسب فى الرواية، فهناك فى المقابل الأصولية المسيحية التى ترفض زواج المسيحية بالمسلم، وتراه خروجا على المسيحية، وتتمثل هذه الأصولية التى لا تخلو من مآرب شخصية (فى الرواية) من خلال شخصية القس «أبانوب» الذى يتصدى للحب الذى وصل بين «جميلة» و«سمحان»، ويحاربه بكل طاقته، فقد كان يقف على ظاهر الأمور، ولا يقرأ روح النصوص أو يقف عند ما تدركه القلوب بمحبة أو امتنان، ويقود معركة باسم الكنيسة ضدهما، ولكنهما ينجحان فى الفرار منه، ولكن دون أن ينسى الروائى أن يصل بين تجليات «سمحان» واضطهاد المسيحيين بواسطة المسيحيين، والحروب الدينية فى تاريخ المسيحية التى مات بسببها الآلاف المؤلفة، سواء فى الشرق أو الغرب، والتى قسمت المسيحية نفسها إلى طوائف ومذاهب متصارعة. ولولا ذلك ما طلب المسيحيون فى مصر نجدة المسلمين، ولا أرسل المقوقس «مارية القبطية» للنبى محمد (صلى الله عليه وسلم) الذى عرف بسماحته، والذى كان زواجه من مارية القبطية علامة على حوار الأديان، وعلى قبول الاختلاف حتى فى الدين، فلم يرووا عن النبى(صلى الله عليه وسلم) قط أنه أجبر «مارية القبطية» على أن تدخل الإسلام، وهو الأمر نفسه الذى مضى عليه «سمحان» عندما استجاب لطلب «جميلة» فى أن تبقى على ديانتها من غير إجبار. ويبدو أن «جميلة» الشخصية الروائية كانت على وعى بذلك، فقد حدثت زوجها «سمحان» عن أشباه «أبى حذيفة» أمير الجماعة السلفية الوهابية فى جبل الطير، وضربت له أمثالا لمثل هذه الجماعات فى العالم الغربى نفسه، مؤكدة على نحو ضمنى أن التعصب الدينى كالإرهاب الذى يترتب عليه، إنما هو طبيعة بشرية تحركها الأهواء والفتن السياسية وغير السياسية. ويبقى التضاد الأخير على مستوى مجاهدة النفس، وهو محور الصراع الذاتى الذى نرى فيه «سمحان» منقسما إلى قسمين لا يتوقفان عن الصراع، وهو صراع تبدو فيه المجاهدة الصوفية أشبه بالرحلة التى يخوضها الصوفى عبر مراحل متعددة نرى أوصافها وملامحها على نحو فاتن فى الرواية. فامتلاك المعرفة الصوفية لا يتم إلا بالمضى إلى نهاية طريق المجاهدة، حيث ينتقل المرتحل عبر الطريق من امتحان إلى امتحان أصعب، وذلك فى سلسلة من الامتحانات التى لا تحتاج إلى عقل يقظ فحسب، وإنما تحتاج إلى نفس صافية أيضا، وصبر على صعوبات الرحلة ومكارهها كى تتخلص النفس شيئا فشيئا من أدران الجسد، وتعانى تجليات لا تنتهى، عابرة الزمان والمكان، متلقية من الرؤى ومن المنامات والأحوال والمقامات ما يصل إلى حال التجليات التى تصل الماضى بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، عابرة حدود العقل، فاتحة أبواب الحدس، إلى أن يصل الصوفى إلى ذروة التجليات التى يختفى معها كل ما يصله بالدنيا الفانية، فلا يبقى له أو أمامه إلا ما يتصل بعالم الأرواح الأثيرى وعالم الرؤيا التى تضيق عنها العبارة، ولذلك تفتنا الرواية بارتحالات «سمحان» عبر الزمان والمكان فى سلسلة من التجليات التى تمتلئ بنصوص من التاريخ، ونصوص من كتب التصوف، وأبيات من شعر المتصوفة على وجه التحديد، وذلك على نحو يجعل من الرواية نفسها شبكة من المتناصات الصوفية التى تتواشج فيها أبيات الحلاج بابن عربى بسمنون المجنون بابن الفارض والبسطامى والجيلى والجنيد وغيرهم من أصحاب الأشعار التى يلمح فيها القارئ مزجا ما بين التصوف السنى والتصوف الفلسفى إذا جاز استخدام هذين المصطلحين- فى مدى امتداد وتداخل الرؤى والتجليات التى تنقلنا فى فضائها الرواية، عبر معراج الخيال الذى لا حد لانطلاقه ولا نهاية لمداه. ومن اللافت للانتباه أن عمار على حسن لا يضع الصوفية فى مواجهة التيارات العقلانية، كما كان يحدث فى فترات التاريخ الإسلامى، وإنما يجمع بينهما فى مواجهة الاتجاهات السلفية التى بدأت تسيطر على الحضارة الإسلامية منذ القرن الثالث الهجرى، ويتصاعد عداؤها للتيارات العقلانية والصوفية فى الوقت نفسه، وهى معضلة يحلها الروائى الماكر بعقد تحالف بين «برهان» و«سمحان». وهى حقيقة تاريخية يحيلها الروائى (الذى يعرف تاريخه جيدا) إلى تحالف بين كل من ممثلى العقل والحدس فى الرواية، فيرينا أن «برهان» و«سمحان» يشتركان فى رحلة البحث عن الرزق، أو عن المستقبل، خصوصا بعد أن «وجدا نفسيهما فعلا فى خندق واحد ضد من أنكر على الشيخ «سمحان» أذواقه ومواجيده، ومن أنكر على «برهان» أفكاره وتأملاته، وأضرم أمامهما نارا فى نار، بعد أن أوغر عليهما قلوب بعض الغافلين». ومن الطبيعى أن ينتصر هذا التحالف، من منظور الرواية، ممثلا وجهة النظر التى تنطوى عليها، والتى لا تفارق رؤية مستقبلية مؤداها أن الانتصار الأخير للعقل على النقل، والاجتهاد على التقليد، وللحدس على النصب، وللتصوف الحق على محتكرى الأديان ودعاة الفتن ومشعلى نارها. (وللتحليل بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور